بقلم: فالح حسون الدراجي ..
اولاً وقبل كل شيء، يجب ان أعترف بأني كنت مؤيداً لما سمي بالجبهة الوطنية والتقدمية التي عقدت في تموز 1973 بين الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث الحاكم، ولم اكن مؤيداً فحسب بل كنت متحمساً لها أيضاً، ولي ما يبرر حماستي هذه، حيث سأمرّ على ذكرها بالمقال.
وكي أكون دقيقاً يتوجب عليّ القول إن الآلاف الشباب والشابات الشيوعيين في العراق، كانوا مؤيدين لهذه الجبهة أيضاً، بينما كان أغلب المعارضين أو المتحفظين على التحالف مع حزب البعث، ينتمون إلى الأجيال الشيوعية السابقة، أي من ذوي الأعمار التي تكبرنا بسنوات، خصوصاً اولئك الذين عاشوا تجربة مأساة الثامن من شباط الدموية عام 1963، واكتووا بنار البعث وأحقاد البعثيين.. ومنهم الرفاق (الثوريون) الذين مضوا مع الانشقاق وانحازوا لجناح القيادة المركزية (الكفاح المسلح) بقيادة الراحل عزيز الحاج، الجناح الذي انتهى تنظيمياً بعد الظهور الشهير لعزيز الحاج على شاشة التلفزيون العراقي وتزكيته للنظام البعثي.. !!
الأمر الذي دفع الكثير من الشيوعيين المنشقين إلى العودة لأحضان الحزب، لكنهم لم ينسوا قطعاً ما فعله حزب البعث برفاقهم، ولن يغفروا للبعثيين أبداً جرائمهم السود، فكان من الطبيعي أن يعارضوا أي تقارب أو تحالف مع هذا الحزب الفاشي، ويكونوا حذرين من إقامة أية علاقة مع المجرم صدام حسين وعصاباته.. رغم التزامهم بقرارات الحزب، ومن بينها قرار التحالف الجبهوي مع البعثيين.
ولأن الشباب وقتها – وأنا واحد منهم- وعوا على زمن كان فيه حزب البعث يقود السلطة الجديدة، ويحاول الظهور بصورة مغايرة لصورته الدموية في شباط 1963، وقام بتحقيق منجزات مهمة على طريق التحرر الوطني، وهي المنجزات ذاتها التي جعلت قيادة الحزب الشيوعي العراقي تمد يدها لقيادة البعث وتتحالف معها من أجل المضي بقطار الحكم الوطني نحو المحطة الحلم، محطة الإشتراكية، وقد مهدّ لذلك التحالف فشل (مؤامرة) مدير الأمن العام ناظم كزار وسقوطه في 30 حزيران عام 1973، وهو الشخص الذي حمله صدام حسين مسؤولية كل الاغتيالات لكوادر الحزب الشيوعي، وعمليات التنكيل بالحزب الشيوعي والأحزاب الوطنية والقومية الاخرى.
لقد كنت أظن -بحكم قلة خبرتي السياسية آنذاك – أن الجبهة الوطنية لن تقود الحكم الوطني في العراق فحسب، إنما أيضاً ستسهم بإنقاذ الشعب العراقي من جراحات ومآسي الماضي، وتحقق له بعض ما كان يصبو اليه ويتأمله، خاصة وأن حكومة البعث قامت باتخاذ بعض الإجراءات الوطنية والتقدمية مثل إطلاق سراح السجناء السياسيين، والاعتراف بجمهورية المانيا الديمقراطية، واعادة المفصولين السياسيين المدنيين إلى وظائفهم، واصدار تشريعات تقدمية تخص الاصلاح الزراعي عبر قانون 151 لسنة 1970، وقانون العمل، وقانون التقاعد والضمان الاجتماعي، والتوجه لحل المسالة الكردية حلاً سلمياً من خلال اتفاقية اذار عام 1970 بين حكومة البعث والحركة القومية الكردية،
والإعلان عن اعداد خطة تنمية خمسية هي ربما الخطة الأبرز في تاريخ العراق، فضلاً عن تأميم شركة نفط العراق في الأول من حزيران 1972، ومن ثم تأميم بقية شركات النفط الأجنبية العاملة في العراق بعد سنة واحدة من ذلك التأميم.. كما يجب أن نذكر هنا، بأن لمعاهدة الصداقة السوفيتية العراقية التي أبرمتها حكومة البعث مع موسكو، دوراً كبيراً في تقريب وجهات النظر بين الحزبين الشيوعي والبعث.
وعلى هذا الأساس انبثق التفاؤل في نفوسنا نحن الشباب التقدميين، واستبشرنا بالمستقبل خيراً، لذلك كان البعض من الشيوعيين القدامى يطلق على جيلنا -هازئاً أو جاداً- صفة (شيوعيي الجبهة)!
إن مقدمات البعث هذه، وإجراءاته التقدمية كانت حافزاً مهماً لقيادة الحزب الشيوعي العراقي للقبول بميثاق العمل الوطني، رغم رفضها له في بادئ الأمر.. وطبعاً، فإن ظروفاً مساعدة، و نصائح أخرى، بل و (ضغوطاً اممية) عديدة مورست على قيادة الحزب للقبول بالجبهة، من بينها الدعوة الملحّة لسكرتير الحزب الشيوعي السوري خالد بكداش وغيرها.. وبرأيي فإن كل هذه الظروف قد تظافرت واجتمعت لتدفع قيادة الحزب الشيوعي العراقي نحو التوقيع على اتفاق الجبهة الوطنية مع حزب البعث..
وهكذا، ظهر احمد حسن البكر وسكرتير الحزب الشيوعي عزيز محمد مساء السادس عشر من تموز عام 1973 على شاشة التلفزيون العراقي، وهما يوقعان بفرح وحبور اتفاقية التحالف الجبهوية بين الحزبين اللدودين .
وفي تلك الساعة تحديداً كنت في حفل ختان ولدَي صديقنا الشيوعي كاظم الحلاق( ابو ثامر)، المقام في بيته بمدينة الثورة، وقد كان الحفل يضم نخبة رائعة من الاحبة الشيوعيين والتقدميين من بينهم الشعراء كاظم إسماعيل الكاطع وجمعة الحلفي وكريم العراقي وكاظم الحميري وخيون دواي الفهد وعواد ناصر، والمؤرخ والكاتب الدكتور فاضل الربيعي، والناقد غالي الخزعلي، واعتقد إن لم تخنِ ذاكرتي كان حاضراً أيضاً زميلنا رحيم العراقي رغم صغر سنه، فضلاً عن حضور أبرز المناضلين والعمال المعروفين في المدينة أمثال سيد محمد (ابو جاسم) وكاظم مهلهل (ابو ثائر) وجاسم عودة (ابو نضال) وعبد الحسين حافظ (أبو نرجس)، وإسماعيل البهادلي (ابو علي) وحمود حسين العبودي (أبو عادل) وسيد جبار (أبو نصير) ، والمطرب التقدمي بشير الخزاعي، والقاص داود سلمان (ابو يوسف)، وعبد (حجية) وحساني وحري، وعدد غير قليل من الأحبة المدعوين.
وقبل أن يبدأ الفنان بشير
الخزاعي بالغناء، صاح أحدهم بصوت عال: افتحوا التلفزيون .. افتحوا التلفزيون رجاء .. وما أن فتح (ابو ثامر) التلفزيون، حتى فوجئنا بالرفيق عزيز محمد يطل بوجهه المشرق، وابتسامته العريضة التي ملأت الشاشة، وهو يوقع مع البكر اتفاقية الجبهة، ويلقي عبارته الرائعة التي أصبحت حكمة محفوظة في القاموس الثوري: ” ما أن ينتهي طموح الفرد حتى ينتهي كونه ثورياً” ..
وحال انتهاء عزيز محمد (أبو سعود) من كلمته حتى غادرنا مكان الحفل، وركضنا كالمجانين إلى الشارع، وللحق فقد كان غيرنا قد سبقنا للتظاهر، لذلك كانت تلك التظاهرة الليلية العفوية أعظم تظاهرة رأيتها في حياتي..
بعد أيام من فرحة توقيع اتفاقية الجبهة، ترجمت الفرحة بقصيدة كتبتها بعنوان (معايد جبهوية من شيوعي إلى بعثي) ..!
وقد نشرت القصيدة في جريدة طريق الشعب عام 1973، وللحق فقد كانت مشاعري تجاه الجبهة لا تختلف عن مشاعر أي شاب شيوعي متفائل وحالم بمستقبل وطني (باسم سعيد)، كما قال بعد ذلك الشاعر التقدمي الفذ زامل سعيد فتاح في أغنية (حاسبينك) التي أداها الدكتور فاضل عواد.
نعم، لقد كان تفاؤلنا آنذاك كبيراً، وحلمنا ندياً أخضر، ولم يدر بخلدنا – نحن الشباب الشيوعي الحالم- أن البعث يخفي (خنجره) المسموم تحت ثيابه، ويجهزه لارتكاب مجزرة غادرة بحق حليفه الحزب الشيوعي العراقي.. وبحق العراق بكل أطيافه.
لذا فإني أقول باختصار : إن قصيدتي: (معايدة جبهوية من شيوعي إلى بعثي)، التي كتبتها قبل واحد وخمسين عاماً ، لم تكن سيئة قطعاً.. بدليل أن الرفيق عزيز محمد قد هنأني شخصياً وأثنى عليها عندما قرأتها في الحفل (النهاري) الذي أقيم في جريدة طريق الشعب بمناسبة الذكرى الأربعين لميلاد الحزب الشيوعي عام 1974، فضلاً عن أن لهذه القصيدة جمهوراً شبابياً تقدمياً واسعاً آنذاك، لكن السوء يكمن برأيي في حزب البعث .. حزب الدم والغدر، والخيانة.. لقد كنا طيبين جداً، ولم نكن نعتقد أبداً أن حليمة ستعود لعادتها القديمة، وأن المجرم لن يتخلى أبداً عن ديدنه الإجرامي مهما طال الزمن ..