قصة بقلم : كلثوم الجوراني ..
أغمضت عيني مستسلمة للرحيل ، الرحيل الابدي إلى عالم مجهول ولكنها تتشبث بجسدي ، نعم انها روحي النقية المتعبة تتوغل كجذور شجرة في تربة طينية تمسك بجسدي لا تريد الخروج منه لم اعد ارى شيئا واثقلت سمعي الضربات التي تلقيتها قبل قليل على رأسي كانت الضربات موجعة جداً ثم أصبحت أقل وجعا وذلك لأنني ضربت حتى تخدر جسمي من شدة الضرب أشعر بالعصي تتخبط على جنبي وظهري ، اصوات القاتلين المرعبة أصبحت همهمات لأن سمعي قد ثقل ووجوههم القفرة الكالحة لم اعد اراها لأنني لم اعد أبصر من شدة ضربهم لي .
لحظات عصيبة كنت انتزع روحي انتزاعا ، ولكنها كانت عنيدة تريد البقاء رغم كل ما حدث لجسدي ، واخيرا تحررت روحي حتى أصبح ضربهم في جسدي كضربة سيف في ماء ، قبل ذلك ارسل لي بعض الكهنة ينذرونني بالموت ولكن تهديدهم ووعيدهم لم يكن يخيفني ، انا التي أدركت الحقيقة وكشفت زيف ادعائهم وترهاتهم وفضحت عقائدهم الخرفة ، يكفي أن كروشهم ملئى بأرغفة تصنعها ايادي الجياع ، قرع اجراسهم يوقظ الحماقة وتغفو لسماعه العقول ، تحت جلابيبهم جيش من الشياطين ، كل ترنيمة منهم تدعو للبلاهة والتفاهة كانوا كورود الجوري الاحمر لا يرى الناس إلا زهوهم أما أنا فأعرف أن في اغصانهم الشوك ، لا الوم مقتهم لي فأنا كنت أسير عكس مسير القطيع الذي يتبعهم .
كنت أحرض الناس بدعوتي إياهم للتعقل والتفكر ، مواعظي كانت توقظ العقول من غفلتها حتى أبصر بعض الناس ما يخفيه الكهنة تحت جلابيبهم فجن جنون الكهنة .
زندقوني وسفهوا ما اقول وساروا بين الناس يتهمونني بشتى التهم وهم يعلمون علم اليقين من أنا ، انا أول امرأة رسمت مواقع الإجرام السماوية وانا من اخترعت مقياس ثقل السائل النوعي وصنعت اسطرلاباً لي مساهمات في الكثير من العلوم انا الفيلسوفة ومستشارة البلاط الملكي اتهم بالكفر والزندقة ، اقتنع بعض قطيعهم بأنني كافرة وبعضهم احتار بأمري ولم يقتنع ببرائتي وحكمتي إلا القليل والقليل جدا ، أصبحوا المؤمنون بحكمتي منبوذين في المجتمع يتهمونهم بالكفر والإلحاد حتى عوائلهم أصبحت تشمئز منهم ولكنهم ابصروا الحقيقة والعودة إلى الخرافة شيء مستحيل ، زاد حنق الكهنة وحقدهم فقرروا الانتقام مني وتحشدوا لإطفاء ثورة عقلي ولا يكون ذلك إلا بقتلي
فأجتمعوا في طريقي معترضين إياي بعصيهم وأسلحتهم، نادوا عليّ فلم اعر لندائهم اي انتباه فبادرني أحدهم بضربة موجعة اسقطتني أرضا وحينما راى باقي الكهنة أن الناس وقفوا متفرجين لا احد يجرؤ على الدفاع عني تشجعوا ليضربونني بأجمعهم ضربا مبرحاً حتى طحنت عصيهم اضلعي واحشائي ، كنت أنظر إلى الناس الذين وقفوا متفرجين وبينهم من آمن بحكمتي وبصحة ما اقول ولكنهم قلة مستضعفة كانوا يخفون وجوههم خشية أن تفضحهم الدموع ، قبل أن يغشى عليّ سمعت هضل المتجمهرين وعبارات من هنا وهناك
تستحق ذلك ، اضربوها فهي كافرة ، خلصوا الناس من شر أفكارها ،يجب أن تموت هذه الأفعى ، وبينها كلام ضعيف لو أنهم نفوها لبلاد أخرى ، لو أنهم سجنوها ، كل ما اسمعه لا فائدة منه هو مجرد ثرثرة لا اكثر .
انتهى العرض وايقن القتلة من مفارقة هيباتيا للحياة وتركوها مضرجة بدمائها على قارعة الطريق انفض الجمع وذهب كل لشأنه وحمل اثنان من الكهنة جثتها ليطمروها في حفرة قد اعدت مسبقا لطمرها ، كانت تلك الليلة ليلة استثنائية لقد أيقظ قتلها العقول وها هي هيباتيا توقظ العقول مرة أخرى ، لقد ازداد حقد الناس على الكهنة وتمرد بعض الضعفاء عليهم حتى ظاهرهم بعض تجار البلدة ووجهائها
منظر المرأة المستضعفة بين جمع من الرجال الأقوياء وهم يوسعونها ضرباً حتى الموت اثار اشمئزاز المجتمع من هولاء الكهنة وفضح دجلهم وزيف ادعائهم بأنهم فضلاء متسامحون .
قيل بعد موت الفيلسوفة هيباتيا أصبحت قصة نضالها ملهمة حتى تناول أحدهم ريشته فرسم لوحة وكانت من اروع اللوحات وابهظها ثمناً علقت في أحد المتاحف ، وقيل إن الكثير من النساء أصبحن يتداولن أقوالها وكتابتها ويستلهمن من علمها الكثير ، قيل إن شجرة كبيرة قد نبتت فوق قبر هيباتيا ، شجرة كبيرة متشابكة الأغصان يلعب الصبية تحت ظلها وما أن ينتزعون شيئا من لحائها حتى يسيل سائل احمر يشبه الدم فيصبغون جباههم به يعتقدون أنها دماء هيباتيا وأنها دماء مقدسة تزيد قوتهم وشجاعتهم ، وقيل إن أحد النجوم التي نراها هو في الحقيقة هيباتيا إذ حلقت روحها في السماء فسلكت دربها لمواقع الإجرام السماوية التي رسمتها مسبقا.