بقلم : فالح حسون الدراجي ..
اليوم تمر الذكرى السادسة والستون لثورة الرابع عشر من تموز المجيدة، تلك الثورة التي قادها الزعيم الخالد عبد الكريم قاسم وكوكبة من الضباط الاحرار الشجعان..
ويقيناً أن مساحة هذا المقال المحدودة لن تسمح لي بالتحدث عن كل منجزات هذه الثورة، فهي اكبر وأكثر وأعظم من أن يستوعبها مقال، فضلاً عن أن أغلب هذه المنجزات باتت معروفة لدى الأعداء والأصدقاء على حد سواء، إلا الذين أعمت أنوار الثورة أبصارهم، أو الذين ولدوا وترعرعوا وعششوا في بؤر الجهل والتخلف والظلام والتعصب، فعُميت بصيرتهم..
لذلك سأتحدث عن جزئية واحدة، تاركاً ومدركاً أن غيري سيتناول منجزات الثورة العظيمة بإسهاب ..
وهذه الجزئية تتمثل بالكذبة (المصفطة) التي أنتجها أعداء ثورة تموز، ورددتها أبواق اعلامهم، وتداولها جيلاً بعد جيل أبناء واحفاد ومريدو (الثورة المضادة)، لا سيما الذين ضربت ثورة الزعيم مصالحهم غير المشروعة، حتى باتت تلك الكذبة وكأنها حقيقة لا يمكن مناقشتها او التجرؤ على الإقتراب منها.. !
وهنا أتحدث عن قتل الملك فيصل الثاني وخاله عبد الإله ونفرين أو ثلاثة من العائلة الحاكمة..
وقبل كل شيء، أودّ أن أوضح بأني غير مطالب هنا بإعلان موقفي من عملية القتل التي جرت في قصر العائلة المالكة (قصر الرحاب) صبيحة الرابع عشر من تموز، وهل من الضروري مثلاً قتل الملك وخاله الوصي أم لا.. لأن هدف هذا المقال يتلخص بعرض حدث تاريخي معين فحسب، لاسيما وأن هذا الحدث قد تعرض لتشويه وتزوير عجيبين، والمصيبة أن ثمة قراراً ظالماً قد تأسس على ذمة هذا الحدث او هذه الكذبة..وأقصد به قرار مجلس النواب العراقي الذي صدر يوم 22 من أيار الماضي والذي حذف بموجبه عطلة الرابع عشر من تموز من جدول العطل الرسمية.. في محاولة لالغاء ذكرى ثورة الجمهورية العراقية التي تأسست في 14 تموز، والتي نقلت العراق من دائرة الهيمنة والنفوذ البريطاني إلى حالة من الاستقلال الوطني الناجز، وأخرجت العراق من حلف بغداد الذي شكله الاستعمار البريطاني لمواجهة الكتلة السوفيتية التحررية، كما أخرجت ثورة تموز، العراقَ من المنطقة الإسترلينية والتبعية للغرب، وفتحت الباب واسعاً أمام تغيرات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية مهمة في العراق، ولا اريد هنا أن أدخل في تفاصيل تلك التغيرات العظيمة .. إنما أردت أن أشير إلى العذر (المضحك المبكي ) الذي طرحه مجلس النواب العراقي في تبريره لقرار حذف عطلة تموز، والذي جاء على لسان أحد أعضاء اللجنة النيابية القانونية الحالية، بقوله : “لم يدرج يوم 14 تموز عام 1958، ذكرى إعلان النظام الجمهوري وإسقاط النظام الملكي، في جدول العطل ، لكونه يوماً جدلياً، بسبب حصول عمليات قتل وانقلاب، وقد تمت معاملته كيوم 9 نيسان 2003، الذي لم يدرج أيضاً في قانون العطلات”.
وأنا إذ أتحفظ هنا على ذكر اسم هذا النائب كي لا يساء الظن بقصدي – فإني أضع هذه الحقيقة التاريخية أمامه وأمام مجلس نوابنا الموقر، وأمام كل من لم تتح له فرص التعرف على جذور وأصل كذبة (مذبحة قصر الرحاب)، واتهام الزعيم عبد الكريم قاسم، أو الضباط الشيوعيين، او حتى الضباط المقربين من الزعيم.. وكي اكون محايداً تماماً، فقد تجاوزت كل ما قاله وتحدث به المؤرخون المؤيدون للزعيم ولثورة 14 تموز، وذهبت إلى ما تحدث به الدكتور فالح حنظل دون غيره، فالرجل كان ضابطاً في الحرس الملكي، ومن المؤيدين للملكية، ومن القريبين جداً من الحدث، وقديماً قالوا (أهل مكة أدرى بشعابها) ..
يقول الضابط فالح حنظل لمجلة (الگاردينيا) : توقفت ثلاث سيارات لوري عسكرية امام بوابة قصر الرحاب يقودها النقيب عبد الستار سبع العبوسي القادم من معسكر الوشاش الذي جلب معه عدداً من الجنود والضباط والاسلحة ومدفع بازوكا، وفتحوا نيران رشاشاتهم على جنود حرس الباب النظامي . وكان النقيب عبد الله الحديثي قد اطلق اول قنبلة بازوكا باتجاه القصر فاهتزت المنطقة كلها على دوي الانفجار بعد ان اصابت القذيفة الشرفة الامامية للطابق الاول واخترقتها الى الصالون الواقع في منتصف الطابق العلوي وانفجرت هناك. وبعد اقل من دقيقة، اطلقت الثانية فأصابت احد الاعمدة الرخامية امام المدخل الرئيسي للقصر وانفجرت ايضاً، ثم قذيفة ثالثة هدمت جزءاً من باب الحرس النظامي الخارجي في الحديقة.
اما في قصر الرحاب، فقد اصدر (الامير عبد الاله) أمراً بعدم إطلاق النار، بينما فوج الحرس الملكي يقف برمته متهيئاً للقتال في انتظار الاوامر التي ستصله من آمر الفوج الموجود في قصر الرحاب .وكان الملازم ثامر يتوسل الامير بأن يخرج هو والملك فيصل معه بسيارته الخاصة ما دام القصر لم يتم تطويقه بعد، وما دام طريق جسر الخر مفتوحاً ويؤدي الى الحدود العراقية الغربية حيث تقع المملكة الاردنية الهاشمية. وردّ الامير بكلمات بسيطة “ لا اريد قتالاً حقناً للدماء” وانما أودّ ان أفاوض المهاجمين وارغب في مغادرة البلاد. وطلب الامير من النقيب ثابت يونس أن يتوجه مرة اخرى صوب المهاجمين ويعلمهم برغبة الامير طلب التفاوض .
نزل الامير ومعه الملازم اول ثامر الى سراديب القصر، وكانت الاسرة قد افترشت الارض وسرعان ما هبت النساء واقفات، ورحن يسألن الامير عن الموقف في الخارج وماذا سيفعلون، وطوقت الاميرة عابدية الملك الذي انهارت قواه وخارت عزيمته وهو يتطلع بعينين حائرتين زائغتين ويستمع الى صوت المذياع الترانسستور وهو يذيع أنباء الثورة والتعيينات . وقد راح عبد الاله ينفث دخان سيجاره بشكل متتابع وأنبأهم بأنه اوفد رسلاً الى القوة المهاجمة يعلمها رغبته بترك العراق، ثم التفت إلى ابن اخته الملك فيصل قائلاً : “حضّر ورقة واكتب فيها تنازلك عن العرش وابقها لحين الحاجة”.
بعد الساعة الثامنة صباحاً بقليل، فتح باب المطبخ وخرج منه الملك، وإمارات الرعب قد تجمدت على وجهه من هول الموقف وبدا مرتدياً ثوبا ذا كُمَّين قصيرين وبنطالاً رمادي اللون وينتعل حذاءً خفيفاً وخلفه سار الامير عبد الاله مرتدياً ثوباً وبنطالاً كذلك، وقد وضع يده اليسرى في جيب بنطاله اما يده اليمنى فكانت ترفع منديلاً ابيض.
وزاحمت الملكة نفيسة ولدها الامير عبد الاله على درج المطبخ وخلفها خرج البقية…
رفع الملك يده بالتحية العسكرية للضباط الموجودين امامه واغتصب ابتسامةً رقيقةً تراقصت على شفتيه وظهرت خلفه جدته، وبعدها سار عبد الاله، وهو يتمتم ببضع كلمات غير مسموعة، وفي هذه الاثناء كان النقيب عبد الستار سبع العبوسي داخل قصر الرحاب، حيث نزل هابطاً درجات الباب الامامية ورشاشته بيده واستدار الى اليمين فشاهد الاسرة المالكة كلها تسير في صف تاركةً باب المطبخ، وبلمح البصر فتح نيران رشاشه من الخلف مستديراً من اليمين الى اليسار فأصابت اطلاقات غدارته الثمانية والعشرون طلقة الامير عبد الاله ورأس الملك وظهرَي الملكة والاميرة عابدية ثم البقية.. وبعد تنفيذه العملية بساعات، استقبله عبد السلام محمد عارف بالأحضان وهو يقول له: (عفارم ستار زين سويت)!
لكن النقيب عبد الستار لم يتقبل هذه (العفارم) كما ظن عبد السلام، وظل يعاني ويتعذب نفسياً حتى أقدم بعد سنوات على الإنتحار بمسدس صغير نمرة (5) كان قد اخذه من احدى غرف القصر الملكي صبيحة يوم 14 تموز !!! وقد حضرت تشييعه (والكلام للضابط الملكي فالح حنظل). وللتاريخ، فإن عبد الكريم قاسم كان ومنذ التخطيط للثورة، وحتى تنفيذها، ضد إراقة قطرة دم واحدة، لاسيما دم افراد العائلة المالكة !..
لقد نقلتُ لكم شهادة الدكتور فالح حنظل رغم أن حنظل كان ضابطاً في الحرس الملكي، وهو ايضاً صديق وزميل دراسة للنقيب عبد الستار العبوسي.. والسؤال الان: ياجماعة، الزعيم (شعليه)، وهو الذي رفض بشدة التعرض لاي فرد من افراد العائلة المالكة، وغضب غضباً شديداً حين سمع بماجرى في قصر الرحاب، رغم ان سقوط بعض الضحايا ، أمر وارد في جميع الثورات عبر التاريخ. ثم ما ذنب ثورة عظيمة تحذف من جدول العطل الرسمية بسبب تهور احد المشاركين الهامشيين، ومقتل خمسة افراد (غير عراقيين).. ولماذا لم تُحتسب دماء فهد وبسيم والشبيبي والاف الوطنيين العراقيين الشرفاء الذين أعدمهم النظام الملكي (الطيب جداً)؟!