بقلم : حسين الذكر ..
تتقد الذاكرة بكثير من صهيل الخيل وشحذ السيف ورد اعتبارات الليل .. من خلال تدجين الحيوان وتطويعه لخدمة أجندة الإنسان ، لاسيما عقله الغازي والاستغلالي المكتظ بالكثير من تشوهات التاريخ وإن جرت بعناوين الهالة والقداسة ..
على وقع سير الخيل كانت ضربات عربة الحصان المجرورة تشق عنان الطريق متجهة نحو باب السماء والارتزاق ، ومصابرة متطلبات العيش اليومي ومصادر علم معتادة لكثير ممن اعتادوا الاشتغال على كفاءة ذاك الحصان.
ظلت حوافره تعزف على القير ، وهي تدوس وجع النائمين والساهرين حتى مطلع الفجر ، في أيقونة ساحرة ، وربما ساخرة من قدر ذلك الحوذي الذي يسوق عربته من عمق انشقاق الظلام إيذاناً بتحدي الحياة ، يرسم ملامح مدينة السلطان بكل ملاحم قبح الإتيان .
لم أنم تلك الليلة ، فقد تراءى لي حلم ساهد تنبأ به وقعُ عيناي قبل إغماضهما ، ما شكل أزمة نفسية ازداد أوارها كلما تعمق خط الليل ، وصمتت صادحات الإنسان ، وشخرت متاعبه ، فتندى من على جبينه أبجدية بيئته بمحاولات رفض لا إرادية يستسقيها الكائن من جهد الأكداح المترامية المتثاقلة على يومياته الشاقة ، فيضطر إلى التعبير عنها برمزيات شتى .
في خريفٍ ما ، وعند ريعان الطفولة مع قليل من حرية أتاحت لي الابتعاد عن محيط حضن الأم وجلادة حرص الأب ، مررت ، وسررت بمنظر حصان جميل لم يصهل بعد ، لكني تعجبت من طريقة قيادته وأكله العشب ، وجمال شكله وخلابة شعر ذيله ، واتساق عضلاته .. لم أكن أعلم أنه إحدى أدوات القتل التي استخدمت منذ الأزل في مطاردة الإنسان .
تساءلت في قرارة نفسي وأنا أتابع أحد الأفلام التاريخية التي تبحث وتجسد تفاصيل الذبح والقتل والحرق بمجاميع أخرى .. كيف كان جميلي الحصان في خدمة الباطشين ونصرتهم ؟
كيف طاوعته نفسه البريئة وسجيته الخليقة بإدانة المنكسرين و دفنهم ، وهم يرضخون تحت قوة صهيله ورعب إغارته المعززة بوقع السيوف وإغراق النصل ؟
كانت الشاشة يومذاك تحاول أن تعبر عن وجه أحادي من أوجه التاريخ ، وكيفية توظيف الأدوات الحيوانية .
لم أقدر ، ولم أستوعب من الرؤية غير تلك المشاهد المؤجندة والمحددة رسمياً ، والمؤطرة مؤسساتياً ، والهادفة إيديولوجياً .
لم يخطر في بالي ، ولن تقتنع ذاتي بأن مخلوقاً جميلاً كفرسي الوثير محصورٌ عطاؤه ودوره بتلك الهجمات المتتالية بغروب الشمس ، ومع فجرها ؛ لتغطي فجور تلك النزوات المؤرقة النازقة حد التشتت .
ظلت فكرة الجودة والإجادة تترى ، فأحدث نفسي فيها طويلاً ، كيف تم إقناع الكائن الظريف بأن يكون شريكاً وأداة للقتل ، مع أنه لا مقبرة ولا تاج ينتظرانه بعد المعارك ؛ إذ إن المعالف لا تكبر ولا تتطور ولا يتبدل نوع عتادها .
في حديقة الحيوانات رأيته حزيناً مكتئباً ، لم تتمكن مساحات الأرض ، ولا الاخضرار المتاح ، ولا الغذاء الوفير من منحه قدراً من الإحساس بحرية التعبير .
حاولت أن أجامله ، أو بالأحرى أن أبلغه تضامني معه ، وضرورة إطلاق حرية الصدح بكل مكان ؛ كي نضبط ايقاع الكون المأسور ، والمصادر ، والواقع تحت قبضة العنتريات .
لم يلتفت إلى ما أقول أو أفكر فطرياً ، فطريقة تفكيرنا مختلفة تماماً عن الآخر ؛ إذ ما زال ينظر إلي كإنسان بكل ما أحمل من عدائية وخبث وخديعة واستغلال لتاريخ الخيول وبقية الحيوانات ، بينما اختلجني الكثير من الحنان والإحساس بكتمه ، مع علمي أني لن أتخلى عن صهوة ظهره كلما أتاحها لي القدر ؛ كي أبلغ من خلالها عنان السماء، وأخر الأزمان ، وأغزر حضرية الأماكن ، وسط الليل أو تحت لهيب أشعة الشمس .