بقلم : اللواء الدكتور سعد معن الموسوي ..
وأنا أتمشى بين شوارع (ودرابين ) بغداد، المدينة التي تختبئ في كل زاوية منها حكايةٌ لا تنتهي، تلفت انتباهي تلك المساجد القديمة التي تروي بحجارتها قصة بغداد العتيقة. ولطالما توقفت أمام بواباتها المهملة، حيث عناقيد الزمن تنساب على جدرانها، ووجدت نفسي مدفوعًا للدخول إلى عوالمها الخفية. داخل كل مسجدٍ، كنت كمن يقلب صفحات كتابٍ قديم، تفوح منه رائحة الورق الأصفر والحبر الذي لا يبهت. رأيت في نقوشها وتفاصيلها لوحةً فنيةً لا مثيل لها، وجدت فيها روحاً ناطقة بأمجاد الماضي، وقصصًا محفورة كأنها تريد أن تُحكى للأجيال.
بغداد، تلك المدينة التي تُعانق نهر دجلة، حاضنة الحضارة والتأريخ، تضم بين أزقتها القديمة عشرات المساجد التي تشهد على أمجاد العصور الماضية. هذه المساجد ليست مجرد مبانٍ صماء، بل هي شواهد نابضة بالحياة، تُحاكي أزمنة ازدهار بغداد، وتروي حكاياتٍ لا تزال أصداؤها تخفق في أروقة المدينة. ورغم عظمتها وأهميتها، أصبحت اليوم في طي النسيان، تنتظر أن تمتد إليها يد الإنقاذ لتعيد لها مجدها ومكانتها.
جامع المرادية: إرث عثماني موغل في القدم
جامع المرادية، الذي شيّده والي بغداد مراد باشا في القرن السابع عشر، يقف شامخاً رغم ما أصابه من تصدعات وتآكل. هذا الجامع العثماني لم يكن مجرد مكان للصلاة، بل كان رمزاً لمرحلة ذهبية عاشتها بغداد حين كانت مركزاً دينياً وثقافياً. نقوشه البديعة، ومآذنه التي كانت تنطلق منها الأذان بأصواتٍ عذبة، أصبحت اليوم تُصارع عوامل الزمن. كيف نترك إرثاً كهذا يندثر، وهو الذي يحمل بين جدرانه عبق التاريخ وروح الحضارة؟
جامع الأزبك: جسر ثقافي بين بخارى وبغداد
في عام 1092هـ، شُيد جامع الأزبك بأمر من عبد العزيز خان، أمير الأزبك في بخارى، ليكون وطناً روحياً للمغتربين الأوزبك في بغداد. كان الجامع مركزاً للعلم، ومنارةً للمصلين والعلماء الذين تبادلوا الأفكار ونسجوا الروابط الثقافية بين الشرق والغرب. اليوم، يقف هذا المعلم شاهداً على هذا التواصل التاريخي، لكنه يعاني من الإهمال، في حين يمكن أن يتحول إلى رمزٍ يعزز التلاقي الثقافي بين الأمم.
جامع الحيدرخانة: ذاكرة أهل بغداد
جامع الحيدرخانة، جوهرة معمارية شيدها والي بغداد داوود باشا عام 1242هـ، كان في يومٍ من الأيام قلباً نابضاً في المدينة. هنا كان العلماء يجتمعون، والطلبة يتلقون دروس العلم، والأهالي يجدون الطمأنينة في رحابه. هذا الجامع، الذي لطالما ارتبط بوجدان أهل بغداد، بات اليوم مهدداً بالاندثار، ينتظر من يعيد إليه ألقه ليكون شاهداً على هوية المدينة وإرثها.
تحمل جدران جامع الحيدرخانة ذكريات لا تُنسى، حيث كانت حلقات العلم تجمع بين الأجيال، فيما احتضن جامع المرادية احتفالات دينية جمعت الناس على اختلاف مشاربهم. مثل هذه القصص تُعتبر ثروةً روحية تستحق أن تُحفظ للأجيال القادمة. إن هذه المساجد ليست مجرد مبانٍ، بل هي أرواح تحيا بذكريات الناس وقصصهم.
جامع الأحمدية: منارة الإسلام الحائرة
بمآذنه العالية ونقوشه الزخرفية التي تحمل رموز الفن الإسلامي، يقف جامع الأحمدية كتحفة معمارية تشهد على تاريخ بغداد الغابر. إلا أن هذا الصرح العظيم، الذي كان يوماً مصدر إلهام للروح والوجدان، يعيش اليوم في عزلةٍ عن أنظار المارة. أليس من الأولى أن يُعاد ترميمه ليكون واجهةً تبرز جمال بغداد وتراثها أمام العالم؟
إن العناية بهذه المساجد ليست فقط مسؤولية الجهات الرسمية مثل الوقف السني، بل هي أيضاً واجب مجتمعي. أتمنى على الوقف السني إلى تكثيف الجهود ووضع خطة واضحة لترميم هذه الجوامع، ليس فقط باعتبارها إرثاً دينياً، ولكن أيضاً لأنها تمثل هوية بغداد وتاريخها خاصة وأن الحكومة لم ولن تدخر جهدا في هذا الاتجاه
إن إعادة ترميم هذه الجوامع يُمكن أن يكون بدايةً لنهضة سياحية وثقافية، تسلط الضوء على عظمة بغداد وتعيدها إلى مكانتها كمركزٍ للحضارة الإسلامية. بغداد تستحق أن تلمع مجدداً كدرّة في تاج التاريخ، ومساجدها تستحق أن تتحول إلى منارات تُلهم الأجيال.
اللواء الدكتور
سعد معن الموسوي