بقلم : فلاح المشعل …
ما الذي يجعل الجمهور يخرج باعداد غفيرة لاستقبال السياسيين بالهتاف الحماسي، أهو جمهور مؤجر لغرض استعراضي دعائي مدفوع الثمن ؟ أم هو جمهور مؤمن بالشخصية التي يهتف ويردح لها ؟
أهو توريث الطاعة التي تركها الزعماء النرجسيين لدى الجمهور العراقي منذ ستين سنة مضت ؟ ظواهر شعبوية تنتسب لعبودية القطيع البشري تعطي للمسؤول كامل الشعور بإمتلاكه كجزء من أصول ممتلكاته الخاصة، بكونه يمثل السلطة ببعدها الفرعوني .
اللافت أيضا في تلك المعادلات البائسة أن الجمهور الشعبوي انزلاقي مخادع، جمهور اليوم هم أبناء تلك الملايين المحتالة التي كانت تهتف ( بالروح بالدم نفديك ياصدام)، وقبل تسنمه بأيام كان الهتاف يتجه لمن سبقه أي (احمد حسن البكر ) وكان يتهادى في حكم عبد الرحمن عارف بعد اشتداده في مرحلة شقيقه عبد السلام ،حيث بلغ ذروته في زمن عبد الكريم قاسم الذي رفع هو وسيارته على أكتاف فقراء بغداد وسط هتافات تحيل برودة شتاء بغداد الندية الى لهيب ساخن .
كيف للجمهور العراقي أن يتخلص من عبوديته للهتاف ؟ متى يتلبسه السؤال بدل الهتاف لصاحب السلطة، سؤال حقوقه وحرياته والعدالة المفقودة والقضاء الزائف ؟ ماهي السبل لتوسيع رقعة الجمهور النقدي المتساءل ، وإنتاج الإنسان الفاعل الباحث عن التغيير في جوهر وجوده والتحول الايجابي كطبيعة تلازم الكائن الإنساني في جميع أنحاء المعمورة ؟
بنية المجتمع العراقي في أنموذج الستين سنة الماضية، كرست طبيعة علاقات السلطة مع توابعها البشرية، علاقة القطيع بالراعي، أي لم يحدث تغييرا جوهريا، من سلطة الفرد المطلقة الى حكم الحزب الواحد، الى سلطة الاسلام السياسي والديمقراطية الهجينة . المتغير الوحيد هو اتساع مساحة الجمهور الشعبوي .
اقتصاد رعوي يجعل الشعب بغالبيته العظمى مرتبط معيشيا بمكرمات الحكومة، بمعنى لم يتغير شيئا ً من جوهر الوجود والوعي الاجتماعي، لا الخوض في التحول الاقتصادي وإقامة بنى اقتصادية استثمارية معزولة عن تابعيتها للنظام السياسي، لاتغيير في منهج القوانين الاقتصادية التي تعيد تنظيم العلاقات والمصالح الفردية والجماعية ، بما يؤدي لإحداث التغيير في العلاقات الاجتماعية ومستويات الوعي الاجتماعي المدرك لأهمية مشروع التحرر الفردي والاجتماعي من هيمنة السلطة المستبدة بقوة أبويتها الاقتصادية .
التغييب القسري والتحريم بل التجريم القانوني لأية مساعي هادفة لإطلاق الحرية في قراءة ونقد السائد في الموروث الفكري والديني والاخلاقي والسلطوي المهيمن منذ سنين طوال، يضفي حالة من السكون المعرفي (ستاتيك) على عقلانية الفكر والثقافة ومدنية الروح المتفاعلة مع الحضارة على نحو منتج .
احجام الحكومات المتعالية في عدميتها ونرجسيتها عن تحرير الثقافة والاعلام والفن بكونها وسائط حضارية تتفاعل ديناميكيا مع وعي الجمهور وتحثه على الارتقاء ، بل جعلت من تلك الوسائط افعالا مشاركة بجريمة التخلف وخيانة الدور الذي أنحسر بوضع المكياج لتجميل السلطة وتبرير صلفها وجرائمها تحت عناوين المصلحة الوطنية أو الظرف التاريخي وغيرها من أكاذيب مكشوفة، ناهيك عن انحرافها الوظيفي في التمجيد الذاتي وامتلاكها وحدها للحقيقة والصواب، والتفوق العنصري الذي يغذي الروح الفاشية ويسقط مفاهيم الاعتراف أو الحوار مع الآخر المختلف .
ستون عاما أنتجت سلطات تبني مجدها الذاتي الزائف وتهمل بناء دولة المواطنة والتكافؤ والعدالة الاجتماعية والتنمية والسلام الاجتماعي، كما أنتجت جمهور شعبوي وطائفي متخلف صار يهتف لكل من تسلط عليه في حكومات مستبدة متخلفة أنتهت الى التشظي الفردي في سلطة السلاح المنفلت، واستيلاد سلطات متعددة في تسميات متصاعدة في عنفها واستغلالها، وانطوت على مسمى اللادولة في ظل خدعة الديمقراطية .
أذن ينبغي أن نتعرف على العلاقة بين الهتاف الشعبوي المجاني الناضح عن روح منتهكة ووعي ساقط في تيار العبودية المستدامة للزعيم الحكومي، والزعيم الطائفي والزعيم الميليشياوي، يقابلها تزايد مظاهر التخلف والفقر المعرفي والاضطهاد الذي يتعرض له المواطن العراقي من قوى اللادولة ، صاحبة السلاح الخارج عن القانون ، بكونها الوليد الطبيعي لسلطة الاسلام السياسي وتعاليم المحاصصة اللاشرعية يقابله تقزم دور الدولة والقانون، وتلك آخر صرعات الجريمة التي ترتكب بعنوان النظام الديمقراطي وتخلق مساحات إضافية لعبودية الهتاف بتنويعاتها السياسية والعشائرية والمليشياوية .. الخ !