بقلم : فالح حسون الدراجي …
الوطنية ليست قصيدة نكتبها عن الوطن، أو اغنية ننشدها في حب البلاد، لنصبح بعدها وطنيين، ولا هي تظاهرة نشارك فيها، فننال بعدها صفة الوطنية، أو سجن سياسي ندخله، ونكتسب من بعده لقب (الوطني)، إنما هي فعل وشعور، وممارسة وايمان وفداء وتضحيات، وهي أيضاً إنجازات مميزة، وخدمات ومكتسبات ومواقف وأعمال مفيدة تقدم لصالح الوطن ومصلحة المواطن.
والوطنية امتحان صعب يتم في ظروف صعبة، يتطلب منا جهداً كبيراً، لتحقيق نجاح تصب نتائجه في مصلحة الوطن.
والوطنية عقيدة وثبات، وعشق مجنون، لا ينتظر العاشق فيه جزاءً ولا جائزة..
وطبعاً فإن السياسي الذي يخطب صباحاً ومساء بعبارات الوطنية، ليس بالضرورة أن يكون وطنياً .. والوزير الذي يتحدث في اليوم 25 ساعة بلغة وأبجدية الوطن والوطنية، قد يكون أبعد الناس عن الوطنية.. والكاتب الذي يطلق على نفسه صفة (الكاتب الوطني) ربما تجد فيه كل شيء إلا الوطنية !
الوطنية ليست لافتة نرفعها، إنما هي فعل ننجزه بأحسن مايكون.. لقد تذكرت كل هذا عن الوطنية قبل يومين، حين رأيت الرباعة الفلبينية ( دياز) وهي تتنافس مع رباعة صينية على الميدالية الذهبية في دورة طوكيو 2020 الأولمبية.
وقد فازت الرباعة الفلبينية هيديلين دياز فعلاً، ومنحت بلادها أول ذهبية في تاريخها بالألعاب الأولمبية، بعد تتويجها في وزن 55 كلغ، امس الأول الاثنين، ضمن دورة طوكيو الصيفية، بعد ان رفعت دياز، البالغة 30 عاما، 224 كلغ (97 خطفا و127 نترا) محققة رقماً أولمبياً، أمام الصينية كيويون لياو (223 كلغ) والكازاخية زولفيا شينشانلو (213).
” وقد سبق لدياز أن حجزت لنفسها مكانا في التاريخ الرياضي لبلدها، على غرار أيقونة الملاكمة، ماني باكياو، بصفتها المرأة الوحيدة من الأرخبيل المترامي الأطراف التي تفوز بميدالية أولمبية، حينما حققت المفاجأة بفضية قبل خمس سنوات وأنهت جفاف الميداليات للفلبين الذي استمر 20 عاما”.
ولعل من المفيد ذكره هنا ان “دياز” أمضت العام ونصف العام الماضي وهي تتدرب في ماليزيا- بسبب قيود كوفيد-19 الصحية- لذلك كانت متفانية في السعي إلى ذهبية غير مسبوقة في مشاركتها الأولمبية الرابعة، وربما الأخيرة لها.
إن كل ما ذكرته قد لا يعنيني، فهذا شأن رياضي تنافسي، يحدث كل يوم في الأولمبياد مرات عديدة، وربما لا يهمني أيضاً اصرار دياز على الفوز بالذهب وكسر الرقم القياسي الاولمبي في الساعة نفسها اربع مرات، كما لم يستوقفني العناد العجيب الذي مارسته دياز مع منافستها الصينية، ومع نفسها، ومع الحديد الذي ترغمه، وتجبره على الخضوع لعنادها، وكذلك التوافق معها في تحقيق الأصعب والأشد، لكن الذي استوقفني جداً، واوجعني جداً، بل وأبكاني، أن الرباعة الفلبينية “دياز” حين نجحت في رفع الحديد، وأنزلته بعدها على الارض، سقطت دموعها مباشرة، وأجزم أن دمعها وصل الارض قبل ان يصل الحديد اليه ..
ولم تكن دموعها مثل دموع أي فائزة اخرى في البطولة، إنما كانت دموعاً غزيرة أشبه بمطر تشريني يسقط من غيمة قد آن أوانها !
ولعل الأروع في الأمر أن المدرب ركض اليها وهي لم تزل واقفة على منصة العرض، ليحتضنها باكياً، ثم يهرع جميع افراد الجهاز الفني الفلبيني اليها، وكلهم يبكي بحرقة وصدق وفرح حقيقي، وكأنهم مجانين في لحظة هستيرية منفلتة من وثاقها ورباطها التاريخي الواقعي فكان المشهد أشبه بلوحة (وطنية) تعبيرية قلّ مثيلها في هذا الزمان ( الفالصو ) ..!
نعم فقد كان الجميع يبكي، والجميع يصرخ ويتلو بكلمات متداخلة غير مفهومة، وكأننا ننظر لشيء قادم من عالم سريالي، أو من كوكب آخر، وليس مشهداً لرياضية فازت مثل أية رياضية أخرى تفوز ببطولة..
حتى أن البعض من الحضور – سواء اليابانيين والحكام أو الرياضيين – راحوا يبكون تعاطفاً وتأثراً بما يحدث أمامهم .
هنا فقط شعرت وقرأت وشاهدت وتحسست صدق الوطنية الحقيقية، وتلمست روعة الانتماء الحقيقي للوطن، فتمنيت ساعتها أن يرى المشهد، سياسيونا ومسؤولونا ومثقفونا، وان يروا المشهد ايضاً كل المدعين والمتشدقين بالوطنية ..
ختاماً، أعترف لكم بصدق، أن هذه الفتاة اعطتني درساً بليغاً في الوطنية الحقيقية.. درساً لن أنساه أبداً أبدا.