بقلم : سرى العبيدي …
تعرف (الدولة البوليسية) على إنها الدولة التي تمارس فيها الحكومة إجراءات قمعية صارمة ضد المجتمع تتحكم من خلالها في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للشعب وتتدخل في توجهات المواطنين ومعتقداتهم, وغالبا ما يتم ذلك من خلال شرطة سرية أو مليشيات مقنعة بأطر رسمية تعمل عادة خارج الحدود التي يفرضها القانون, ويكون المسوغ (حسب وجهة النظر الحكومية) في اغلب الأحوال وجود تهديد للأمن الوطني أو القومي أو وجود عملاء لدول خارجية، أو محاولات زعزعة النظام وغير ذلك مما ينطلي على الكثير من البسطاء, وتمرر الأنظمة من خلال تلك الأساليب الكثير من المشاريع غير المشروعة، وممارسة التصفيات السياسية، مثل قانون الطوارئ أو الأحكام العرفية.
ولعل بناء السجون والمعتقلات من ابرز سمة تلك الدول التي تولي لهذا الجانب اهتمام كبير كونه يمثل العصا الطولى في احتجاز وإبعاد من تريد إبعادهم عن ساحة الحياة السياسية أو الاجتماعية بأي سبب مختلق, حيث كشف فريق من خبراء حقوق الإنسان بالأمم المتحدة عن تزايد كبير في عدد المعتقلات السرية بمختلف أنحاء العالم وخصوصا في الدول المنتهجة للنظام الشمولي، بدعوى الحرب على الإرهاب، ووصف أعضاء بالفريق الظاهرة بأنها تُعد من الجرائم ضد الإنسانية.
وفي تقرير آخر لمنظمة (هيومان رايتس ووتش) الذي يحمل عنوان(زقاق في جهنم)، إن أناسا عاديين يتعرضون كثيرا للاختطاف من الشوارع وينقلون إلى مراكز احتجاز غير قانونية في مثل تلك الدول, وأحيانا تصادر ممتلكاتهم ويتعرضون للضرب وترفض السلطات منحهم أي معلومات بشان الأماكن التي يحتجزون فيها, وتقول المنظمة أنها جمعت المعلومات التي وردت في تقريرها من خلال مقابلات مع 38 معتقلا، أجريت في وقت سابق.
لقد واجه العالم في السابق ولازال يواجه موجات الاستبداد العسكري والحكومات البوليسية التي تنتهج طريق تحطيم النفسية البشرية واستعمارها، واستعباد الإنسان وتركيعه واذلاله، وهو ما يعد تجاوز على الحقوق البشرية جمعاء لان الجزء يجسد الكل، ويشير أحد العلماء إلى هذا الجانب بقوله: (… يلزم حث المجاميع الدولية كي تقوم بالضغوط الشديدة على كل حكومة تريد ظلم شعبها، ذلك أن الإنسان من حيث هو إنسان لا يرى فرقا بين ظلم أهل الدار بعضهم لبعض وبين ظلم الجيران بعضهم لبعض, وهذا هو ما يحكم به العقل أيضا ولا يجوز في حكم العقل والشرع أن ندع أمثال موسيليني وهتلر وستالين يفعلون ما يشاؤون بشعوبهم تشريدا ومطاردة ومصادرة للأموال وقتلا للأنفس بحجة أنها شؤون داخلية.. فإذا اشتكى أبناء بلد عند سائر الأمم كان عليهم أن يرسلوا المحامين والقضاة فإذا رأوا صحة الشكوى أنقذوا المظلوم من براثن الظالم وإذا ما تكاتف بنو البشر فان الطغاة والمستهترين بحياة الناس سيجدون أن لامناص من الخضوع لقاعدة العدل بين البشر).
ملامح الدولة البوليسية
أولا: رفض التداول السلمي للسلطة وجمع الصلاحيات في شخص فرد أو حزب واحد.
ثانيا: اعتماد الدولة الدكتاتورية على إيديولوجية تبرر بها وجودها وتصرفاتها وتفسر بواسطتها أفكارها وسياسات تظهرها على أنها تسير وفق خدمة الأمن العام وأنها المنقذ والمخلص من أي تهديد.
ثالثا: التركيز على (كاريزما) القائد الأوحد والحزب الواحد وعبارة (زعيم واحد) التي تجعل الحزب كمؤسسة تابعة للفرد, فتقدم وجوده على المجموع وتعكس طغيانه ودكتاتورية في داخل حزبه على الدولة التي يحكمها.
رابعا: احتكار وتسخير وسائل الإعلام والاتصال في جميع الأنشطة وجعلها مسخرة لأبواق السلطة وناطقه باسمها وهذا يشرح أبعاد سياسات الإلغاء والتهميش للآخرين، فيُسمع الناس ما يشتهي الحاكم ويمنع عنهم ما يريد.
خامسا: إخضاع المؤسسة العسكرية ومفاصل القوة والدفاع، ومؤسسات المجتمع المدني الى منهج الارتباط المباشر بشخصية الحاكم وترجمة سياساته عن طريق استخدام البطش والقسوة والتنكيل, ووضع قيادات مرتبطة بشخصيته مباشرةً وترهبه دون غيره, وتتملق للوصول الى مرضاته بكل وسيلة.
سادسا: الاقتصاد الموجه الذي يسيطر الحاكم به على مقدرات الشعب، ويتحكم بقوت الناس وأرزاقهم ليكون له اليد الطولى بزيادة العطاء لمن يواليه وتقليص وتضنيك متطلبات المعيشة لمن يغايره التفكير والتوجه.
سابعا: بناء مؤسسات شبه حكومية تابعة بشكل مباشر لشخص الحاكم ورأس الهرم السلطوي مهمتها تنفيذ الأجندة الخاصة للشخص المحرك لها حتى ضد الجهات الحكومية واستخدامها في حالات الضرورة او في حال تراجع الجهات التنفيذية عن تنفيذ الأوامر غير القانونية.
ثامنا: تطبيق المواد القانونية والدستورية بطريقة مسيسة فتشدد في جانب وترتخي في جانب آخر وحسب أهواء السلطة.
تاسعا: في الدولة البوليسية هناك ديكور للسلطات وبشكل خاص القضائية والتشريعية ولكن يكون واضحا للعيان توغل السلطة التنفيذية التي تحظى برعاية خاصة من النظام الحاكم ورعاية مميزة على حساب باقي السلطات الأخرى الأرفع منها دستوريا.
وبديهيا إن ما سينتج في مثل تلك الدول هو تربع المؤسسة العسكرية على مصدر القرار وتضخمها يقابل ذلك خمول وتشظى المؤسسات المدنية مثل جمعيات حقوق الإنسان ومنظمات المجمع المدني, ونتيجة لذلك يكون المجتمع منقاد بطريقة الترهيب والتلويح بالقوة رغم عدم قناعته في اغلب الأحوال.
ورغم إن الدول التي تمارس هذا النوع من السياسات تعتبر نفسها في منأى عن التغيير إلا إن الحقيقة تعاكس ذلك بكثير, فعادة ما تكون تلك الدول أكثر من غيرها تعرضا للتغيير حيث يبقى النظام الشمولي رغم قوته الظاهرية بناء هش ونظام قلق, والتجارب المتكررة أثبتت إن الدولة الديمقراطية المتحضرة (كما يعبر البعض) بأنها نعمة على الوطن والمواطنين بعكس الدولة البوليسية التي هي نقمة على الاثنين معا وكذلك على النظام السياسي لأنه سيفقد القاعدة الجماهيرية اللازمة لدعمه وتأييده والتي لا غنى عنها. ولأن الشعوب ليست قطيعا من الأغنام فلابد أن تكون مساندتها وتأييدها قائمة على القناعة بأهمية هذا النظام وحاجته إليه, فالنظام السياسي بدون التأييد الجماهيري كالسمكة بدون ماء في طريقه إلى الموت والزوال رغم مظاهر القوة التي تصورها له أجهزة المخابرات والمتزلفين، ولكن عندما تقوم الثورات الشعبية فجأة سيكون أفراد جهاز المخابرات أول الهاربين والمتنصلين من الممارسات القمعية في حق الناس وتحميلها إلى النظام الذي يصدر التعليمات.
علماء السياسة والمفكرون يجمعون بان الحكومات الديمقراطية ذات الحريات الواسعة هي الأساس الرصين الذي تبنى عليه الدول المتقدمة مضافا الى ذلك فان معظم دول العالم تتجه أن تكون دولا ديمقراطية تعتمد الأسس والمعايير القانونية في تنظيم شؤونها وشؤون أفرادها في التعامل أي دولة المؤسسات لا دولة الإفراد, بعد أن تأكد للكثير منهم بان أهم أسس نجاح البلدان هو قيام حكومات تعتمد المؤسساتية زخما لها وسندا في تطورها ودوامها.
وما يهمنا اليوم أن تكون لدينا القناعة التامة كجزء من المنظومة البشرية أولا وكعراقيين ثانيا بان الزمن سيلفظ أي جهة او حكومة تقوم على الفكر البوليسي كما لفظت أمثالها سابقا وان لا مجال إلا لحياة حرة وتعددية قائمة على مبدأ الانتخاب الحر والتداول السلمي للسلطة.