بقلم : فالح حسون الدراجي ..
هذا المقال ليس نعياً، ولا رثاءً حزيناً، أكتبه بحق رفيقي وصديقي وأخي المناضل الجسور حيدر شيخ علي، الذي افتقدته أمس، فأوجع فقده قلبي، وأدمع وأدمى رحيله عينيَّ.
إنما هو درس أضعه امام كل المناضلين، لا سيما الشباب الذين لم تهبهم الحياة، نعمة التجربة.
لقد اجتمعت في (حيدر شيخ علي) مزايا وخصال جمة، خصال فذة لا يمكن اجتماعها في شخص واحد -مهما كان هذا الشخص- والسبب برأيي، أن حيدر ، نشأ ونما وترعرع في بيئة وظروف تاريخية لن تتكرر أبداً .. ظروف وبيئة متداخلة ومتشابكة مع بعضها، صنعت معدنه، وصهرت خصائصه، وأنجزت شخصيته الفذة، وأقصد شخصية (البطل) الوطني والمناضل الصلب الذي لم ينثنِ أو ينحنِ أو يتقاعد عن نضاله الوطني.. نعم، فقد كان (أبو فيان) بطلاً مميزاً دون شك وهو يواجه (البعث) الخبيث، وظل بطلاً مميزاً أيضاً حتى وهو يناضل في ميدان آخر حين راح يصارع مرض (السرطان الخبيث) ثلاثة عشر عاماً، حتى تعب منه المرض، وكاد أن يستسلم لمريضه العنيد، رافعاً الراية البيضاء، بعد أن رأى صموده، وعناده، وقوة إيمانه وحبه للحياة.. لكن المشيئة القدرية أرادت ان تضع ختاماً لحياة هذا الشيوعي المغوار والعنيد.
أجل، فقد قضى هذا الفارس ثلاثة عشر عاماً في مواجهة السرطان، مع ثلاث عشرة عملية جراحية دامية، وهذا يعني، ثلاثة عشر ألف أنّة، وألماً وصرخة مكبوتة مخبوءة لايسمع بها أحد، وقبل ذلك، كان الرجل قد قضى أكثر من نصف قرن في مواجهة المرض الأخبث، المسمى حزب البعث..! ومن طبيعة الواقع وأحداثه، أستطيع القول، إن حيدر شيخ علي، ولد قائداً بالفطرة، لاسيما وهو يتصدى لقيادة الانتفاضة العمالية الباسلة في معمل الزيوت النباتية عام 1968، وقد كان وقتها عاملاً بسيطاً وفتى يافعاً في اول شبابه. ولعل ميزة القيادة، والكاريزما التي يتمتع بهما أبو فيان، هما هبة طبيعية لا تأتيان بالتدريب، ولا بالعمر، أو بالشهادة الدراسية.. ونفس الشيء يمكن أن يقال عن الصلابة الممتزجة لديه بالعاطفة. فهاتان الصفتان اللتان عرف بهما حيدر، قلما تجتمعان سوياً في شخص واحد، لكنهما اجتمعتا وتآلفتا عند هذا الرجل!
ولعل من بين مواصفات حيدر شيخ علي، إخلاصه اللا متناهٍ لشعبه وحزبه وقضيته، حيث ظل الرجل ستين عاماً مؤمناً ومدافعاً عن عدالة هذه القضية، وبقدر ما كان شيوعياً وطنياً مخلصاً حين كان عاملاً بسيطاً، فقد ظل وطنياً وشيوعياً مخلصاً حين أصبح وزيراً في حكومة الإقليم بعد أن رشحه الحزب الشيوعي الكردستاني لهذا الموقع.
ومن علامات ثباته على انتمائه الطبقي، وإخلاصه، وجديته، وحرصه الوطني، دوره البارز في إنشاء مطار أربيل الدولي، حيث أشرف (الوزير) حيدر شيخ علي بنفسه على تشييد هذا المطار، منذ أول حجر وضع في أساسه حتى افتتاحه، وبات اسم مطار اربيل مقترناً باسم حيدر.
ولا يفوتني ان أشير الى ذكائه غير الطبيعي، وعقله المتفتح، والمتقبل للعلوم رغم ان الرجل – بسبب الظروف المعيشية- حرم من مواصلة تعليمه، وهنا أذكر له تفوقه، حين سافر الى الاتحاد السوفيتي في منتصف السبعينيات في دورة تطويرية مكثفة، رشحه لها الحزب الشيوعي العراقي مع عدد من الرفاق والرفيقات، ورغم أن مدة الدورة لم تستغرق اكثر من ستة أشهر، لكنه عاد مؤهلاً تاهيلاً علمياً وثقافياً عالياً، وكأنه درس لست سنوات، وليس ستة أشهر فحسب، اذ أصبح مؤهلاً للإجابة عن أي سؤال في الإقتصاد بل هو ألقى بعدها محاضرة رائعة في كتاب رأس المال لكارل ماركس!
ماذا عساني أن أذكر في هذا المقال المحدود من الأمثلة الكثيرة عن مواهب هذا الرجل، سواء أكانت في الثقافة والوعي، أو في قراءة الحدث وتوقعه قبل حدوثه، فضلاً عن ميزة التحليل الموضوعي الرصين للمناخ السياسي ..
وفي هذا المجال، أذكر أننا أقمنا في آذار عام 1973 بمناسبة ميلاد الحزب الشيوعي، حفلاً كبيراً في بيت الزميل حساني بقطاع 40 في مدينة الثورة، وقد أراد الحزب أن يختبر مدى مصداقية واستعداد، وتقبل حكومة البعث لفكرة الجبهة الوطنية، فأوكل مهمة الحفل لمنظمة الشبيبة العمالية، ليأخذ صفة ديمقراطية وليست حزبية محضة، فكان الحفل (نصف علني) و ( نصف سري) أيضاً.. وقد كنت عريف ذلك الحفل، وعضو لجنة الاحتفال، في حين كان حيدر شيخ علي الذي كان اسمه آنذاك (رحيم الشيخ)، مسؤول الحفل، ورئيس اللجنة.. وأذكر أن [٩:٠٣ م، ٢٠٢٣/٥/٦] عمر الحسن: تم
[٩:٠٣ م، ٢٠٢٣/٥/٦] ابو احسان: الحفل أقيم في خيمة كبيرة نصبت وسط بيت حساني، الذي كان خالياً من البناء عدا غرفة واحدة يقبع بها حساني وأمه.. وبدأ الحفل الذي حضره رئيس اتحاد الشبيبة العراقي، عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، الرفيق كمال شاكر – أبو سمير- وبعض كوادر الشبيبة والحزب، مع عدد كبير من العوائل الشيوعية والتقدمية، فضلاً عن مشاركة كبار الشعراء والفنانين الشيوعيين.. وللحراسة و (السكيورتي)، كلفنا عدداً من الزملاء الشباب للوقوف عند باب الدار، وبينما كنت اقدم فقرات الحفل، جاءني أحد الزملاء ليخبرني أن شخصاً عسكرياً برتبة عريف قد مر قبل ساعة، وسأل عن سر التجمع في باب بيت حساني، فقلنا له: الليلة (حنة) حساني، فمضى الى بيته القريب، ثم عاد نفس الشخص (واسمه بشير سهيم الخزاعي) مرتدياً الملابس المدنية، وبيده ( عود )، وهو يصر على الدخول والمشاركة في عرس صديقه حساني!
وفي الحقيقة شعرت بالتوتر والقلق إزاء هذه المشكلة غير المتوقعة، وذهبت الى الزميل حيدر شيخ علي، وأخبرته بهذه الورطة، فابتسم، وقال بهدوء تام: وما المشكلة؟
قلت ضاحكاً : الأخ يريد يشارك بالعرس …!
فقال: دعه يشارك !
قلت متعجباً: ماذا تقول؟! قال: دعه يشارك، أليس هو عرساً وطنياً، وعيداً للكادحين .. ؟
وحين رآني قلقاً، سألني قائلاً : أهو يحمل (عود) ام رشاشة)؟
فقلت: يحمل عوداً ؟
قال: إذاً لماذ أنت قلق .. إذهب وأدخله يا زميلي !
فدخل بشير الى الحفل، وقد رأى جواً مختلفاً عن أجواء الأعراس السائدة.. جواً فيه شيء من النظام والالتزام والجمال والدهشة.. ثم راح يفحص الشعارات المعلقة، والصورة الكبيرة للرفيق فهد، واعلام الحزب الشيوعي الحمر، فأدرك سر ، ومعنى هذا الاحتفال.
وبعد خمس دقائق لا أكثر قدمته للغناء، وأنا أضع يدي على قلبي قلقاً !
أمسك بشير عوده وهو يقول بثقة: أقدم لكم أغنية (رسالة الى الرفيق فهد) كلمات فالح حسون الدراجي.. وليسمح لي الشاعر الدراجي، فقد وجدتها منشورة بجريدة الفكر الجديد ولحنتها دون علمه .. ثم راح يغني القصيدة بأداء ولحن رائعين، فاستجاب له الحضور بسرعة، وراح يردد معه الاغنية.. ثم قدم بعدها (يمه الحيدري) كلمات كريم العراقي.. وقد كانت هذه الاغنية معروفة ومنتشرة شعبياً، فكان الجمهور الحاضر يرددها معه منتشياً.. وما ان انتهى من الاغنيتين، حتى رفع بشير يديه محيياً الحضور، قائلاً بصوت عال: تحياتي وسلامي.. كل عام وحساني بألف ألف خير..!
غادر بشير الحفل، وهنا رمقني حيدر بنظرة خاصة، وكأنه يقول لي: ها فالح مو گتلك لا تخاف من ذوله الناس الطيبين !!
كان هذا التشخيص درساً بليغاً لي لم أنسه قط..
وللحق فأن ثمة أمرين اخرين يعرفهما كل من عرف حيدر، اولهما الإيثار، أي حب الآخرين وإرادة الخير لهم وتفضيلهم حتى على نفسه.. وفي هذا المجال لديّ عدد كبير من الأمثلة، لكني أمتنع عن ذكرها هنا (دفعاً للاحراج) الذي ربما أسببه لمن يأتي اسمه وذكره فيها ..!
أما ثاني هذين الأمرين فهو (التسامح)، إذ كان حيدر متسامحاً بشكل غير طبيعي، ويمكن لي أن أذكر امثلة كثيرة لايسع لها المجال في هذا المقال.. لكني أذكر هنا مثالاً واحداً فقط لأعبر عن نقاء حيدر شيخ علي، ونصاعة قلبه وتسامحه العجيب..لقد اعتقل الايرانيون أبا فيان، بتهمة العمالة لموسكو !! -وهي تهمة مضحكة – وقد اودع سجن (إيفين) الرهيب الذي يقع شمال غربي طهران.. وبعد سبع سنوات من التعذيب الفظيع، والاعتقال المر القاسي، وبعد تلك الأيام والليالي التي لا توصف، غادر حيدر سجنه بريئاً، دون أن يحمل في قلبه ذرة من الضغينة لأحد، بل كان يدافع عن ثورة ايران، وشعب وتاريخ إيران، رغم كل ما فعلته به حكومة الثورة الاسلامية، وأظن أن كريمته فيان تتذكر دفاع أبيها الدائم عن ايران حتى اللحظة الأخيرة من حياته!
ورغم أنه سجن في ايران بوشاية ظالمة من أحد السياسيين الاسلاميين العراقيين المقيمين في الجمهورية الاسلامية، إلا انه نسي بعدها كل ذلك، وراح يقاتل في جبهة جهادية وكفاحية واحدة جنباً الى جنب مع القوى الاسلامية والعلمانية ضد نظام صدام المجرم..
بل إن زعيم حزب الدعوة الاسلامية نوري المالكي طلب شخصياً من حيدر شيخ علي دون غيره أن ينقله من موقعه في جبال كردستان الى داخل العراق وذلك أثناء احتدام العمليات الحربية في نيسان 2003، وللتاريخ فقد أخبرني المالكي بذلك شخصياً عندما قابلته بحضور الدكتور كامل الزيدي، مؤكداً لي بأنه لا يثق ولا يأمن بغير المقاتل البطل حيدر شيخ علي، لاداء هذه المهمة الصعبة !!
وفعلاً قام أبو فيان مع مفرزته القتالية الشيوعية بنقل المالكي وايصاله سالماً آمناً.. متناسياً ومتسامحاً مع تيار الاسلام السياسي الذي ذاق مر العذاب بسبب الوشاية الكاذبة لأحد عناصره ..
لقد عرفت حيدر شيخ علي معرفة دقيقة، لاسيما وقد مضى على علاقتي به واحد وخمسون عاماً، مذ أن التقيت به أول مرة عام 1972 حين كان مسؤولي في اتحاد الشبيبة، ثم أصبح مسؤولي في الحزب الشيوعي، بعد أن تأهلت لعضوية هذا الحزب عام 1974 بل وتسلمت بطاقة العضوية من يديه الكريمتين.. وتطورت علاقتنا بعدها، فاقترن بشقيقتي، ثم صرت خالاً لابنتيه، المحامية العزيزة فيان شيخ علي – سكرتيرة منظمة تموز- والعزيزة انتظار- التي أسمتها امها انتظار، حين اعتقل حيدر وهي حامل بها-واستمرت علاقتي الحميمة به حتى يوم رحيله..
المجد والخلود والذكر الطيب للمناضل والقائد حيدر شيخ علي، والصبر والسلوان لزوجته السيدة الكريمة أم بلند، ولأولاده وبناته فيان وانتظار وبلند وبيار، ولكل رفاقه ومحبيه في كل مكان وزمان..