بقلم: د. كمال فتاح حيدر ..
ظل الاتصال الذهني والتخاطر الروحي بين أهلنا وبخاصة عند النساء يمثل الوسيلة الموروثة للتواصل مع ذويهن مهما بعدت المسافات بين المناطق النائية في الريف أو في البادية، وفي الهور والجبل. .
كنت أرى والدتي رحمها الله حين تنتابها فجأة مشاعر الحزن والألم، أراها تتصرف وكأنها تلقت رسالة من ذويها الذين تقطعت بهم السبل وتعذرت عليهم الأسباب، فتنزوي في ركن هادئ من البيت، أو تعتكف تحت ظل شجرة، أو تجلس فوق ربوة خارج الدار، ثم تولي وجهها صوب ديار أهلها، وتطلق العنان لعويل يبكي الصخر، بترنيمة مشحونة بالنواح والنحيب والمناجاة بصوتها الشجي. كانت تبعث الرسالة نفسها كلما شعرت بلوعة الفراق، فتقول:
من صار الوداع – مدري اشگلت من صار الوداع
شالو بساع – اهلنا اتركونه وشالو بساع
لا تگول أهلنا موش غيّاب. . .
فقد كانت رسائل المناجاة ينقلها بريد الروح عبر المفاوز البعيد، ومازلنا نسمع رسالة مالك بن الريب إلى أهل الغضى، في مناشدته الاخيرة لأمه وهو يرثي نفسه، بعاطفة مؤثرة تنثر الحزن والحسرة بين ثنايا مفردات مرثيته:
وبالرمل منا نسوةٌ لو شهدنني
بكين وفدّين الطبيب المداويا
فمنهن أمي وابنتاي وخالتي
وباكيةٌ أخرى تهيج البواكيا
وتكررت الرسائل الروحية نفسها على لسان (ابو فراس الحمداني) وهو يودع ابنته من بعيد بقصيدة اختزلت أنين الأسر وصهيل الحرب وزمجرة الشعر، فيقول :
أبُنيتي لا تجزعي
قولي إذا ناديتني وعييت عن رد الجواب
زين الشباب أبو فراس لم يمتع بالشباب
لدينا جميعاً هذه الومضات الروحية في التخاطر والمناجاة، لكن تلك المشاعر الجياشة تمتلك طاقات استثنائية عند اهلنا كلما توغلنا في أعماق الريف، وكلما ذهبنا بعيداً في جوف البادية، واحياناً يضطرون إلى إرسال رسائلهم مع أسراب الطيور المهاجرة، نذكر منها رسالة قيس بن الملوح:
أسرب القطا هل من مُعير جناحه لعلي الى من قد هويت أطير.
وقوله:
بكيت على سرب القطا إذ مررن بي فقلت ومثلي بالبكاء جدير
وأحيانا تكون الرياح هي الواسطة المتاحة لنقل خطاباتهم الروحية، ومنها قول شاعرنا الجميل (زامل سعيد فتاح) بقصيدته المكتوبة باللهجة الدارجة:
مر عليهم يا هوى ومر بينا وشوفهم لو وصلت طارينا
شلونهم ذولاك لو ناسينا
لا ريب انها فطرتَ الله التي فطر الناس عليها. لا تبديل لخلق الله. . .