بقلم: د. مظهر محمد صالح ..
ا- تمهيد :
خاطرتان في الاجتماع السياسي تستحق قدرا عاليا من التامل في مصنع الشرق الفكري وثقافته و تلامسان بدون شك قضية تطور الوعي و حالة الدراية للمرء في اوطاننا بمحيطه السياسي والاستجابة له.
فاذا كان الوعي هو المسرح الداخلي او نظام المراقبة التنفيذية عبر العقل ، فان التساؤل مازال يدور حول تشظي الوعي ولاسيما في عالمنا المشرقي والدخول بانقسام الوعي و انشطاره جراء تعاقب الأزمات (التلقائية والمفتعلة) والتشتت الجمعي نحو اللاوعي في مجتمعات مأزومة crises societies وبشكل مستمر ،حتى بات انقسام الوعي واستقطاباته يصنف ضمن (ثقافة الانغلاق) .
وتاسيساً على ذلك فثمة اجابتين بشان تشظي الوعي و ثقافة الانغلاق :
فالاجابة الاولى : جاءت من موقف فكري مدهش يستحق الاهتمام ، حيث اثار المفكر السياسي حسين العادلي في واحده من اهم مفارقاته التي يعيشها الشرق السياسي وهو في معترك ما يتعرض اليه العقد الاجتماعي من تفاقم ظاهرة انقسام ثقافة الوعي وانغلاقها خشية بلوغ حالة من اللاوعي الجمعي ،منوها بالقول : الحَاكِم لدَينا نِصف “إِلَه”، والمَحكوم عِندنا نِصف “إِلَه”!!
الحَاكِم يُنصِّب نَفسه مقياساً للحَق، والمَحكوم يُنصِّب نَفسه مقياساً للحقيقة.
والطَّامَة عِندما يجتمع النِّصفان: حَاكِم مسكُون بوَهم الحَق، ومَحكوم مسكُون بوَهم الحَقيقة.
هُنا يكتَمِل “إِلَه” الخَراب، وتضِيع مفاتيح الحلول، فلا حَاكِم رَاشٍد ولا مَحكوم مسترشِد.
اما الاجابة الثانية : فقد اثارها المفكر السياسي ابراهيم العبادي وهو يحاكي ظاهرة تزاحم 281 حزبًا سياسياً تحضيرا للانتخابات المحلية القادمة لبلوغ السلطة في بلد خضع لعقود طويلة من دكتاتورية الحزب الواحد.وازاء حالة من الاغتراب الشعبي او اغتراب مايسمى بالاغلبية الصامته والتي سجلتها الحياة الديمقراطية وصناديق الاقتراع في آخر انتخابات برلمانية في البلاد ،طالعنا العبادي بمقال تحليلي عنوانه : الانتخابات المحلية والاحزاب الجديدة ، اذ استطرد الكاتب متناولاً ملاحظة انطباعية غير مقاسة علميا عبر استطلاعات وقياس الراي العام ،مفادها : البرود الكبير وضعف الاهتمام الجماهيري قياسا بتحمس الاحزاب والكيانات والاشخاص بهذه الانتخابات ،ودائما مايثار هذا السؤال مع كل انتخابات تجرى في العراق منذ انتخابات عام 2014 التي سبقت اجتياح داعش لمناطق شمال وغرب العراق ،لماذا تتضاءل مشاركة الناس في الانتخابات رغم تزايد عدد السكان سنويا ؟ ،وماهو تفسير ازدحام الساحة الانتخابية بعدد كبير من الاحزاب والكيانات في غياب قواعد جماهيرية حقيقية وثقافة ديمقراطية فاعلة ؟ وكيف للديمقراطية ان تنجح وتنمو وتستقر في العراق مع وجود هذا الكم الكبير من الموجودات السياسية التي لم ترتق الى مسمى الاحزاب السياسية العصرية المتوافقة مع متطلبات ومقتضيات الدولة الحديثة ؟ . هنا اخذني المفكر العبادي الى محاضرة في مبادي النظم السياسية للراحل الاستاذ شمران حمادي جرت قبل 55 عاما ( كان يتحدث فيها ذلك الاكاديمي العراقي الراحل يومها عن احزاب الكوادر ) وهي احزاب غير جماهيرية تنشط قبيل الانتخابات وتختفي في مقراتها بعد انتهاء عملية الاقتراع وكسب الاصوات ومن ثم تتقاسم السلطة من خلال الفوز ومن ثم يحصل الافتراق بينها وبين جماهيرها حال فتح صناديق الاقتراع . لذا نجد في ظاهرة ترشح 281 كيان بصيغة حزب لا يمتلك قاعدة جماهرية في بلدان الديمقراطيات الناشئة ،ماهي الا احزاب كوادر لاتحمل بالضرورة اي مشروع او برنامج يتسع لاهداف كبرى بالغالب، وغاياتها السعي للفوز بالمقعد الانتخابي وجذب المواطن الى صندوق الاقتراع . وهو تكتيك وقتي شديد الهشاشة يحمل غايات سياسية عابرة (اي عبر عملية تجميع كمي في مصفوفة سياسية مبهمة الايديولوجيا والاهداف.
2-ادهشني نص للكاتب الأميركي صومائيل هنتغتون ، ساقه الاكاديمي السياسي الدكتور اياد العنبر في مقال جريء جداً نشر مؤخراً كان عنوانه : العراقيون وازمة التفكير في التغيير السياسي ،مفاده((..في تشخيصه لواقع الأنظمة السياسية في البلدان الحديثة النشوء سياسيا يرى عالم السياسة الأميركي هنتنغتون في كتابه “النظام السياسي في مجتمعات متغيّرة”، أن المجتمع السياسي فيها يكون مفتَتا، ومؤسساته ضئيلة السلطة، وسيادتها ضعيفة وجامدة لا مرونة فيها، ولا تمارس أنظمةُ الحكم حُكْما، وتحدث الفجوة السياسية عندما تُقابَل ديناميكية المجتمع بجُمُود النظام السياسي. وفرص حدوث الاضمحلال السياسي تصبح واقعا عندما تكون هناك فجوة بين الحراك الاجتماعي والمؤسسات السياسية، ويحدث ذلك عندما يعجز النظام السياسي عن الاستجابة لمتطلبات الأجيال الصاعدة أو الجزء الأكبر من الجمهور؛ عندها يشعرون بالإحباط لأنَّهم يجدون أنفسهم غير قادرين على المشاركة السياسية )).
فبهذا العدد الهائل من (احزاب الكوادر ) التي تتنافس اليوم بغية الفوز في الانتخابات البلدية (في ديمقراطية ناشئة )والتي تحولت تدريجياً في اندماجات يمثلها اكثر من 40 تحالف (مع فقدان اديولوجي وبرامج عمل ورؤى ملموسة بالغالب )هي محاولة تكتيكية لجذب اكبر عدد من جمهور الاغلبية الصامتة المحبطة الى صناديق الاقتراع لصناعة فوز ديمقراطي يبقى هشاً على جدار الوعي المنقسم وثقافته المنغلقة.
3- بين أطروحة المفكرين ابراهيم العبادي وحسين العادلي ، لابد ان نستدرك دور المثقف الذي اغترب بوعيه على الجدار الفاصل بين الحاكم والمحكوم …فلا ندري كم هو وعي ذلك المثقف وهو يتخبط في مدركات فيلسوف رومانيا اميل سوران Emil Cioran عندما قال : الوعي لعنة مزمنة، كارثة مهولة …. فالجهل وطن ….والوعي منفى.
اذ ياتي هنا حراك (اللاوعي الجمعي ) لياخذ دوره على جدران العقد الاجتماعي ولكن في هذه المرة من زاوية علم النفس الاجتماعي.
ففي تحليل مهم ساقه الاكاديمي و المفكر الاستاذ قاسم حسين وهو يحاور حراك (اللاوعي الجمعي )ربما ليصف لنا ذلك الجدار العازل بين (وعي السلطة ووعي الجمهور ) لياخذنا في مقال تشخيصي عنوانه: اللاوعي الجمعي..اللاعب الخفي في الصراع العراقي …اذ يؤصل الكاتب نظريات اللاوعي الجمعي على واقع بلادنا من خلال ماذهب اليه فيلسوف فرنسا (المتعدد الثقافات )غوستاف لوبون Gustave Le Bon
في كتابه: الجموع ..دراسة في العقل الشعبي The Crowd: A Study of the Popular Mind 1895، متناولاً
آليات السلوك الجمعي ،ليؤكد لنا أن (اللاوعي الجمعي )يعمل وكأنه (مفكر اصيل) وفق اساليب او آليات
توصل اليها (لوبون ) مفادها : أن الانسان الفرد قد يكون مثقفا ومتحضرا ولكنه وسط الجموع يصبح بربريا.بمعنى ان تصرّف الافراد في الجموع يكون مختلفا عن تصرفهم حين يكونون لوحدهم. ولقد عايشت ذلك ((كما يقول المفكر قاسم حسين )) تظاهرات شباط 2011 وانتفاضة تشرين 2019 )).
ويدهشك ايضا ان هنالك عمليات نفسية تتحكم بسلوك الفرد حين يكون بين الجموع،التي يصفهما قاسم حسين : عمليتان:
هما (تقبّل الإيحاء ) و (العدوى الاجتماعية).
ففي هذه الحالة تسارع الجموع الى التصرف على وفق ما يوحى اليها به،وتتراجع الشخصية الواعية ليتولى “اللاوعي الجمعي” توجيه سلوكها .
4-عد الفيلسوف الامريكي كارل بوبر Karl Popper خير من ميز بين (مصادر المعرفة ومصادر الجهل ) مبيناً موقفا نقديا مهما في تحليل جدار العلاقة السكونية بين الحاكم والمحكوم، وهي محاكاة عظيمة تنسجم و موضوع الاستجواب interpolation او فلسفة الاستجواب للمفكر البنائي الماركسي لوي اولثوسير Althusser ولاسيما في موضوع تفكيك مفهوم بناء السلطة بين السلطة (القمعية )والسلطة (الايديولوجية) ..!!،
واخيراً ، اجد من جانبي ثمة خيط فكري رفيع بين (بوبر ) و ( الثوسير ) في فلسفتيهما النقدية المبنية على الوعي المتحرر من الانغلاق الاديولوجي لبلوغ تفسير الحدود الساكنة التي وصفها المفكر حسين العادلي ،ذلك في جدار التناصف بين الحاكم والمحكوم ،ولاسيما عند غياب الوعي او سيادة اللاوعي الجمعي كما يقول المفكر قاسم حسين ، يقابل ذلك توافر مساحة من (ثقافة الوعي النقدي ) او (ثقافة الانفتاح على المحيط ) لدى الافراد من النصف المحكوم (موضوع الحكم او السلطة ) وتقصد هنا الوعي النقدي للنخبة المثقفة ،وهو السبيل في اثارة منهج فلسفي محتدم مازال ممتداً منذ تاريخ ظهور المفكر السياسي الفرنسي جان جاك روسو (واحلال مبدا الفصل بين السلطات )لترسيخ جدران العقد الاجتماعي المشروط بالوعي الجمعي وثقافة الانفتاح.