بقلم: فالح حسون الدراجي ..
في منتصف السبعينيات، وفي أمسية صيفية، اجتمعنا أنا والشاعر الراحل كريم العراقي والفنان الكبير سامي كمال في بيت الشاعر الراحل كاظم اسماعيل الگاطع .. وقد تم اللقاء احتفاءً بعودة صديقنا سامي من زيارة لأهله في كحلاء العمارة. وقد جلب (أبو فريد) معه من الكحلاء تسجيلاً لثلاثة نواعٍ جنوبية تفطر القلب، بصوت شقيقته الكبرى.. وبعد ان سمعنا النواعي، قال سامي – أطال الله في عمره -: إذا أعجبتكم هذه (المواجع) فساكون شاكراً لو كتبتم لي عليها نصوصاً غنائية.. لأقدمها بطريقة مختلفة، مع الحفاظ على نبض وحرارة وجعها ..
وكان من بين تلك النواعي نشيج ذابح يقول مطلعه: لا تگولونش مات يشمت عدوّه..موش بيدي ياناس .. أمر الله گوة ..) !
ولحرف الشين كما هو معروف جذر سومري، لذلك يلفظه أهلنا في أرياف العمارة بعد آخر حرف من حروف الأمر مثل: لا تروحونش.. وللمفرد: لا تروحيش.. وهكذا مع بقية الكلمات. وقبل ان نتقاسم بيننا النصوص الثلاثة، قال كريم، والدموع ملأت عينيه: أرجو أن تسمحوا لي بكتابة”لا تگولونش مات “، فوافقنا دون تردد.. وهكذا صارت ( لا تگولونش مات) من حصة كريم، بينما اختار الگاطع واحدة وأنا أخذت الثالثة.. وقد كتب كريم في نفس اللحظة مطلع الأغنية عن ذلك النعي، والتي عرفت لاحقاً باسم: (لا تگول الحب ضاع.. بگليبي هوّه).
كما كتبنا أنا والگاطع بعد ذلك أغنيتين أيضاً ..
واليوم حيث يرحل كريم، لا أعرف كيف تذكرت تلك الأمسية الصيفية العطرة، وذلك النعي الجنوبي المرّ وكيف ارتبط الموضوع برمته في ذهني.. ؟ ربما لأني-لا وعيوياً – اعتبرت أن كريم لم يمت، أو ربما تمنيت على الأقل ان لا يذاع أو يشاع خبر موته، كي لا يفرح بفجيعتنا الشامتون، ويكون رحيله قاسياً علينا مرتين: قسوة الغياب وشماتة الشامتين. ولكن ماذا سنفعل إذا كان، (أمر الله گوة) وخارج عن الارادة البشرية ؟!
لذلك تمنيت أن يعود لنا كريم ساعتين فقط، ليرى بأم عينه كيف بكاه العالم، وليس العراق والعراقيون فحسب، وكيف نعاه سفير اليابان، وسفيرة أمريكا، وكيف أقيمت سرادق العزاء على روحه النقية في السفارات والجمعيات العراقية في بودابست وبراغ وأبي ظبي وواشنطن وغيرها، وكيف رثاه كبار الزعماء والقادة، بدءاً من رئيس الامارات الشيخ محمد بن زايد، مروراً بكبار الزعماء والقادة العراقيين والأدباء والفنانين الذين أعتذر عن ذكر اسمائهم خشية ان انسى اسماً، فيصبح حجة أو شماعة يعلق عليها البعض كل أخطائي في الحياة.. ولكن للامانة وللتاريخ، يتوجب عليّ أن أذكر هنا الحزب الشيوعي العراقي الذي بعث بوفدين لتقديم العزاء لأسرة الراحل أبي ضفاف، الأول من اللجنة المركزية للحزب والثاني من محلية مدينة الثورة، وهذا أمر له دلالة واضحة. ولعل الشيء المهم الآخر ان رحيل كريم قد تصدر نشرات الاخبار في كبريات القنوات العربية والعراقية بل وحتى العالمية، فضلاً عن منصات التواصل، حتى أن (منصة نينوى)، وهي منصة ثقافية وسياسية تحظى بمتابعة شعبية كبيرة، اجرت معي اتصالاً عن طريق الكاتب والاكاديمي المعروف الدكتور عبد الامير العبودي، بعد ساعات من اذاعة الخبر المفجع، ولأن وضعي الصحي والنفسي لم يكن يسمح لي وقتها بالحديث، فقد اعتذرت، ليتم الحديث للمنصة في صبيحة اليوم الثاني ويحقق مشاهدات فوق مستوى التصور.. أما الان، فأني أكرر أمنيتي بعودة كريم لساعتين فحسب، ليطلع بنفسه ويعرف كيف تحولت بيوت الكثير من العراقيين الى مآتم، ومجالس عزاء.. وكيف جرحت وفجعت النفوس بنبأ رحيله.. إن هذا التعاطف غير المالوف يمثل برأيي استفتاءً شعبياً دقيقاً لأهمية الشعر، ومكانة الشاعر في قلوب الناس، لاسيما حين يكون الشاعر عراقياً حقيقياً ناصعاً مثل كريم العراقي.
ولعل عدد اليوم الذي خصصته جريدة الحقيقة لكريم العراقي، والذي كتب فيه أصحابه وزملاؤه ومحبوه، هو بعض من الوفاء لكريم العراقي، الشاعر والوطني والصديق الذي واكب هذه الجريدة ودعمها بقوة منذ العدد الاول لاصدارها، ولديّ عدة بصمات بصوت كريم يتحدث فيها بحب كبير عن اعجابه بـ (الحقيقة).
لقد اجتمعت في شخصية كريم العراقي مواصفات قد لا تجتمع عند غيره، وقد لا يعرفها إلا من كان قريباً جداً منه.. وطبعاً فأني لا أتحدث هنا عن موهبته الشعرية، فهذه يعرفها القاصي والداني، إنما اتحدث عن مزايا مزروعة في شخصيته ونسيجه الروحي.. فمثلاً كان كريم (كريماً) جداً، رغم ظروفه المالية الصعبة، حتى انه كان يدفع كل (حسابنا) حين يقبض راتبه رأس الشهر، رغم ان راتب المعلم كان متواضعاً، كما كان يصرف علينا مرات عديدة، مبالغ المكافآت التي يتقاضاها عن النصوص الغنائية .. وكان كريم ايضاً شجاعاً وصلباً حين يتطلب الوضع موقفاً صلباً وشجاعاً، رغم ما عرف عنه من مرونة وليونة ورقة وهدوء ..
وفي جعبتي الكثير من الأمثلة عن هذه المواقف الصلبة، والتي لم يزل أكثر شخوصها أحياءً يرزقون .. سأروي اليوم موقفين عن شجاعة كريم وشهامته.
الاول، حين اعتقل من قبل الاستخبارات العسكرية في منتصف السبعينيات بحجة اشتراكه في تنظيم شيوعي داخل الجيش، وقد جاؤوا بمن يعترف عليه (زوراً )، لكن كريم نفى ذلك بقوة، وصمد صموداً عجيباً رغم قسوة ووحشية التعذيب.. ولو لم يصمد كريم ذلك الصمود – لاسيما وقد كان يعرف آلاف الشيوعيين، ومئات البيوت والعوائل التقدمية في بغداد والمحافظات التي كان يحضر حفلاتها، ويشارك في السفرات التي يدعى لها كشاعر شيوعي. أقول، لو لم يصمد كريم وقتها، لحلت كارثة حقيقية بمنظمات الحزب، والعوائل والبنات العذارى وكلنا يعرف ماذا سيحصل لهن على يد اولئك الأوغاد الجلادين، لكن كريم الذي جاءني بعد ساعات من اطلاق سراحه، وسهرنا في بيتنا أنا وإياه فقط – كشف لي عن التعذيب الوحشي الذي مورس معه، وقد كان فرحاً بصموده رغم الأذى، حيث أخبرني بفخر أنه لم يعترف على أي أحد ولم يعطهم اسماً واحداً، أو عنوان بيت واحد مما يعرف.. وكان ثمن ذلك، أن وقّع مكرهاً على تعهد باعتزال العمل الحزبي الشيوعي، حفاظاً على سلامة الرفاق والرفيقات، والاصدقاء، والاهم حماية العوائل الشيوعية الكريمة من تلك الذئاب المفترسة.
وقد طلب مني ساعتها إيصال هذه المعلومة للحزب بالسرعة الممكنة، – وقد كان الحزب يقطع التواصل مع أي رفيق يطلق سراحه، حتى يتم التأكد من موقفه في الاعتقال. وقد قمت فعلاً بإيصالها الى الحزب ..
كان كريم يروي لي القصة ويبكي بحرقة.. فتضامنت وبكيت معه، لأني كنت أعلم أي تضحية قام بها هذا الفتى وهو يوقع على ورقة التعهد المشؤوم..!
أما الموقف الثاني، فقد حصل في يوم 30 حزيران عام 1980 وتحديداً في قاعة الرباط في شارع المغرب، حيث أقيم مهرجان كبير للشعر الشعبي بمناسبة الذكرى الستينية لثورة العشرين، حضره وزير الداخلية سعدون شاكر ممثلاً عن صدام حسين، وقد تم التحشيد لهذا المهرجان تحشيداً استثنائياً شاركت فيه كل منظمات اتحاد النساء في محافظات العراق، حتى غصت القاعة بمئات الحضور.. وقد شارك في هذا المهرجان عدد كبير من شعراء بغداد والمحافظات، من بينهم كريم العراقي والراحلان عريان السيد خلف وزهير الدجيلي وكاظم اسماعيل الگاطع، وحسن الخزاعي ومحمد عزيز كاندو، وسعدية الزيدي وغيرهم. أما الشعراء الذين حضروا ولم يقرؤوا فكانوا : انا وناظم السماوي وزامل سعيد فتاح، وعدد آخر حضر دون ان يشارك .. وأذكر أن زهير الدجيلي القى قصيدة مطلعها: (علّي صوتك عاليات الريح محد هزهن .. غير مهوالٍ يصيح بربعه..)..!
وقد سبقته الى المنصة والدته التي القت عدداً من الأهازيج والهوسات التي تمجد ثورة العشرين.
بينما قرأ الگاطع قصيدته الشهيرة: ( اللي مضيَّع ذهب.. بسوگ الذهب يلگاه.. واللي يفارگ محب .. يمكن سنة وينساه..بس اليضيَّع وطن ..وين الوطن يلگاه)؟
في حين قرأ الشاعر حسن الخزاعي قصيدة بدوية بعنوان (تسلم ياعراق).. وقد كان الحفل يمضي كما مخطط له بين قصائد واهازيج وهتافات، حتى اعتلى كريم العراقي منصة الشعر، ليتغير بعدها الأمر كله، ويتكهرب الجو تماماً. والمشكلة ان كريم الذي كان يلقي قصيدة شعبية عادية، توقف عند نصفها.. واستدار نحو سعدون شاكر، الذي كانت تجلس الى جواره منال يونس رئيسة اتحاد النساء، ويصرخ مرتلاً بالفصيح عدة ابيات، كان آخرها : السقطة السقطة السقطة إما أن تصبح قمراً ..أو كلباً عند السلطة .. !!
لم يصدق الجمهور ذلك، واصطخب الوضع تماماً في القاعة.. في حين صدمنا انا وكاظم الگاطع وناظم السماوي وبقية الشعراء، بينما راح بعض مرافقي سعدون شاكر بسرعة نحو كريم ليمنعوه من مغادرة القاعة، بعد ان تلقوا اشارة من (عمهم) .. وفي الوقت ذاته كان أحد الشعراء يحرّض بقوة ضد (الشاعر الشيوعي) الذي يشتم (شعراء الثورة) .. -وهذا الشاعر المحرض يقيم ومنذ سنوات خارج العراق- وهنا تدخل بعض الشعراء الذين لهم كلمة مسموعة في مثل هذه المواقف، وتحدثوا مع رئيسة اتحاد النساء طالبين تدخلها لتهدئة الوضع.. فوافقت على مضض، وأفلح تدخلها في اقناع الوزير .. خاصة وأن كريم اكد لهم بأن هذه الابيات اقتطعها من اوبريت كان قد كتبه عن فلسطين، وقد عرض من التلفزيون العراقي.. وللتاريخ، فقد وقف الشاعر مكي الربيعي المعروف بشهامته في مثل هذه المواقف، أمام كريم العراقي كالطود، كما وقفنا أنا والگاطع وناظم وزامل سعيد الى جانبه لنشكل جداراً مانعاً بوجه جميع الذين حاولوا الاعتداء على كريم العراقي من قبل بعض الجمهور البعثي، الذي كان متحفزاً للاعتداء والاساءة. وعندما غادرنا القاعة في سيارة اللادا الصغيرة العائدة للگاطع.. سألت كريم قائلاً : كريم عود ليش غيرت القصيدة؟
فقال كريم ضاحكاً: والله يا خويه ضجت.. احنه مدعوين للاحتفال بثورة العشرين، لو بـ (ثورة) 17 تموز.. شو الجماعة نسوا شعلان أبو الجون، وچلبوا بصدام حسين .. !!
ملاحظة: أسفل المقال ثمة رابط لبصمة كريم الصوتية التي ارسلها لي قبل فترة، وفيها يذكرني باعتقاله ذاك وصموده، وبوقفته في (السقطة) !!