بقلم: فالح حسون الدراجي ..
بسبب حساسيته الشعرية العالية، ومخيلته الخصبة، يحلق الشاعر في فضاءات الجمال بأجنحة مزاجه الفني الخاص، ويرى ما لا يراه الآخرون في الصورة التي ينظرون اليها جميعاً.. لذلك تراه يشتغل في منطقة لا تصل اليها أقدام غيره، باحثاً في معادلات غير منطقية وغير عقلانية، بل وسيصل إلى نتائج خارجة عن منطق جميع علوم الفيزياء والرياضيات والطبيعة..وقد لايصل إلى أي نتيجة، ربما لأنه لم يسع إلى النتائج أصلاً .. فالشاعر لا ينظر إلى الأشياء بالعين البشرية المجردة، إنما يبصرها بالعين الأخرى.. أقصد عين الجمال (الخاصة) التي لا تتوفر لغيره.. لذلك توقفت في الأسبوع الماضي عند صورة، ربما تكون عادية لدى الآخرين، وقد لا تحدث فيهم ما أحدثته في قلبي وعقلي – باعتباري احد المشتغلين في منطقة الشعر البعيدة- فاستفزتني هذه الصورة، وأثارت حساسيتي الفنية، بل وأشعلت في رأسي ناراً تكفي لإيقاد الف سؤال وسؤال، ولم تكن تلك الصورة سوى لقطة مرت سريعاً في إحدى شاشات القنوات الفضائية العربية، وفيها يظهر شاب غزاوي يبيع الورد في جحيم غزة الملتهب ! دهشت لها، وأوقفت اللقطة حالاً، ثم أسرعت بالتقاط صورة لها عبر كاميرا تلفوني لأوثق هذا الحدث الفريد.. نعم الـحدث (الفريد)..وأقولها بضرس قاطع، وإلا ماذا تريدون أن أسمي تلك اللحظة، وهي تترجم قصة شعب استثنائي، شعب يُقصف عدة مرات يومياً، وبأنواع الطائرات والصواريخ المدمرة، ويحاصر حصاراً حديدياً، حتى بات فيه العثور على كسرة خبز حلماً يحلم بها أطفال غزة، والحصول على(صحن شوربة عدس) يحتاج إلى نضال مرير.. وتوفير حبة الاسبرين بات أصعب من كل صعب، أما النوم لساعتين هانئتين دافئتين في طقس غزة، فقد أمسى أمنية غزاوية صعبة التحقيق ..!
وبين كل هذا الركام من الأسى والدم والدموع، ووسط هذا الكم الهائل من الاحزان والأوجاع والخيبات (العربية) التي يصاب بها شعب غزة كل يوم، ناهيك من شراسة الجوع والبرد والقلق والخوف من المجهول، إذ لا أحد يعرف ماذا يضمر المجنون نتنياهو في قلبه وعقله من خطط جهنمية لهذا الشعب الصابر .. وإزاء شعب يدفن أبناءه القتلى في باحات البيوت السكنية، بعد أن توقفت المقابر الجماعية عن استيعاب المزيد من الموتى، وفي مثل هذه الأوضاع الكارثية التي لا يمكن لمواطن أن يفكر بالفن والشعر والجمال والعصافير والورود .. إذ كيف يفكر ويحلم الجائع بغير رغيف الخبز الحار، وكيف يتقبل الأب شراء باقة ورد، وهو غير قادر على شراء قنينة دواء لطفله المريض، وكيف يتقبل فكرة إهداء وردة حمراء لحبيبته في عيد الحب، وهو لا يجد لهذا اليوم ذكراً في (روزنامة) الأيام الدامية التي يعيشها في غزة القتل والقصف والنار، نعم، وفي قسوة هذا المناخ، يبرز لك شاب يبيع الورد .. والغرابة لا تكمن في هذا الفتى المجنون، إنما تكمن في أهل غزة المجانين الذين تسابقوا على شراء الورد منه !!
فأي مزاج سريالي هذا ؟!
وأي جنون جميل هذا ؟! وهنا ستحدث الدهشة، بمعنى يحدث الشعر، وتولد وتتناسل الاسئلة، وما الشعر إلا هذه الاسئلة التي لن تجد أجوبة لها.. صدمتني الصورة، فقفزت من مقعدي كالملدوغ: يا الهي أي شعب هذا، وأي روحية فذة يمتلك، وأي حب يسري في دمه وشرايينه وأحلامه؟
الفلسطينيون مدهشون، مختلفون، ومجانين بكل معنى الكلمة.. وإلا ماذا تقول عن رجل يبحث عن وجه ولده الضائع في زحمة وجوه المهجرين والنازحين من خان يونس إلى رفح، فيتوقف عند بائع الورد، ويخرج من جيبه عملة نقدية، يناولها إلى البائع، ويحمل بيده وردة، وكأنه وجد ضآلته ورجاءه في أريج هذه الوردة الحمراء؟.
إنه أمر غير معقول في حسابات المنطق ..
لذلك وجدتني أكتب هذا المقال لأسطر من خلاله اعجابي بهذا الشعب البطل، رغم أني متأكد وواثق من أن بعض القراء سينتقدني بسبب هذا الاطراء، منطلقاً من ذكرياته المؤلمة عن مواقف بعض الفلسطينيين المؤيدة للطاغية صدام حسين، دون النظر إلى معاناة وعذابات الشعب العراقي وهو يواجه نظام صدام الفاشي الإرهابي ..!
وسيكون الحال مراً لدى هذا البعض من القراء حين يعلم أن قادة حماس كالشيخ احمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وغيرهما، كانوا اكثر المتحمسين لتأييد صدام حسين، بل وإن هناك عشرات الآلاف من الفلسطينيين كانوا يخرجون بمسيرات كبيرة في شوارع مدن فلسطين، ومن بينها قطاع غزة، وهم يهتفون لصدام، حاملين صوره ومتوعدين بالانتقام والثار له .. والأشد مرارة إن الاف الناس في الضفة الغربية مازالوا حتى هذه اللحظة يرفعون صور هذا الطاغية في واجهات ومداخل بيوتهم ومحلاتهم.
وقد يتسامح المواطن الفلسطيني مع أي شخص وحول أي شيء، لكنه لن يتسامح قط مع من ينتقد أو يعارض صدام ..!
ومع ذلك، فإني استطيع تبرير هذه الأفعال بجملة واحدة، مفادها، أن صدام حسين محتال، وبهلوان حقيقي، نجح في الضحك على ذقون الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج، ولا يصعب عليه الضحك على ذقون أبناء الشعب الفلسطيني ايضاً، سواء عبر الأكاذيب التي كان يبثها في خطاباته الفجة، حول فلسطين وتحريرها من النهر إلى البحر، وتسويقه لفيلم (صدام، الزعيم العربي الوحيد الذي ضرب تل أبيب بتسعة وثلاثين صاروخاً)، رغم أن الجميع يعرف أن العملية هزلية برمتها، لم تقتل فيها قطة اسرائيلية ولا كلب صهيوني واحد ..!
أو من خلال تقديم الرشى للسياسيين والإعلاميين، ودفع شيكات التعويض لعوائل الضحايا في مدن فلسطين المحتلة، مستغلاً الظروف المعيشية المرة التي كان يمر بها الشعب الفلسطيني.. لهذا وذاك يجب علينا ان نتفهم أوضاع وظروف اشقائنا، بل وأن نعذرهم أيضاً، مهما كان وجعنا كبيراً ..
فما مر عليهم، وما يمرون به اليوم على يد الصهاينة يدعوان كل عراقي إلى مسامحة اخيه الفلسطيني ومساعدته والوقوف إلى جانبه في محنته الحالية.. أما أنا فقد غسلت بدموع طفلة غزاوية جائعة، كل ما في قلبي من مرارة وعتب على الفلسطينيين- الأردنيين، الذين أساؤوا لي ولكثير من العراقيين المقيمين في عمان بسبب معارضتنا لصدام في تسعينيات القرن الماضي..
إن هدفي من هذا المقال يتحدد بدعم هذا الشعب البطل، المضحي، الذي ظُلم كثيراً، واتُهم وحورب وتعرض للإبادة والتهجير والتشريد لأكثر من ستة عقود قاسية، خاصة وأن لشعب فلسطين تأثيراً كبيراً على توجهاتي الثقافية لاسيما الشعرية..
إذ تعرفت على فلسطين الثورة والكفاح والشعر في أول شبابي، فقد عشقت الشعر والأدب والغناء الفلسطيني، خاصة الشعراء الشيوعيين محمود درويش، وسميح القاسم، وتوفيق زياد، والشاعر والكاتب معين بسيسو، الذي أصبح أمين عام الحزب الشيوعي في قطاع غزة، وغيرهم.. واتذكر أن أول ديوان شعر قرأته وكسبني لساحة الشعر، وأنا في السادسة عشر من عمري، كان (عصافير بلا اجنحة)، لشاعر المقاومة محمود درويش، وهو أول ديوان يصدره (الشاب) درويش.. وقد تنوعت قصائده على ما أذكر بين العمودى والتفعيلة.. ومنذ ذلك الديوان، وأنا على ولائي للشعر الفلسطيني الثائر..
لقد تذكرت كل هذا الجمال والروعة، وانا ارى ذلك الشاب الفلسطيني الذي يبيع الورد في اسواق وشوارع غزة المزدحمة بالدم والجوع والمقابر الجماعية.. فهل كان الورد يمثل قطب المعادلة المجنونة، التي تمثل الدماء قطبها الثاني؟!