بقلم : فالح حسون الدراجي ..
خلال عشرين شهراً انقطعت فيها عن زيارة العراق لأسباب مختلفة، رحل خلالها عدد غير قليل من أعز الأقرباء وأخلص الزملاء، وأغلى الأصدقاء، فلم تتح لي فرصة توديعهم، أو تشييعهم، أو المشاركة في مراسم العزاء التي أقيمت لهم، أو حتى زيارة مدافنهم، مما أحزنني جداً وزرع في قلبي غصة باتت تؤلمه كلما نبض بذكراهم ورأى صورهم .. وأمس قررت السفر إلى النجف الأشرف، لزيارة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، والتشرف بالسلام عليه، ومن ثم زيارة مقابر الأهل ومدافن الأحبة الذين رحلوا سابقاً، أو الذين رحلوا خلال الفترة التي انقطعتُ فيها عن المجيء إلى العراق، ويأتي في مقدمتهم أخي وصديقي العزيز، الشاعر الجميل كريم العراقي..
وما أن عرف بعض الأصدقاء (المتمكنين) بهذه الزيارة حتى عرض عليّ أكثر من واحد فيهم، كرمه، ونبله، واستعداده لوضع سيارته الفخمة والحديثة مع سائقها تحت تصرفي.. لكني اعتذرت من الجميع وشكرتهم، فقد أردت الذهاب بصحبة صديقي عباس غيلان، وبسيارتنا المتواضعة..
في البدء ذهبنا إلى كربلاء المقدسة، حيث كانت محطتنا الاولى.. وبعد أن تشرفنا بزيارة مقامَي أبي عبد الله الحسين وأخيه قمر بني هاشم العباس، عليهما السلام، تناولنا طعامنا في أحد مطاعم كربلاء الراقية، وأقمنا في أحد فنادقها الفاخرة – وما أروع وأرقى الفنادق والمطاعم في كربلاء.
وفي ساعة مبكرة من صباح اليوم الثاني، غادرنا كربلاء متوجهين إلى مدينة النجف، وخلال السبعين دقيقة التي استغرقتها الرحلة لم نتخلَ أنا وصديقي عباس غيلان عن تقليدنا الثابت : سماع آيات من القرآن الكريم بصوت المقرئ الفذ عبد الباسط عبد الصمد، ثم سماع بعض من هديل حمامة الصباح وكروان الجمال فيروز.. وحين وصلنا النجف كان الصباح في أول قدومه، إذ لم يزل غضاً ولطيفاً وبارداً وطيباً، لذلك قررنا استغلال هذه (النعمة) الصباحية القصيرة قبل ان يهجم الحر في ظهيرة تلك المقابر الموحشة.. فقمنا بالسلام على أبي الحسن وتحية المقام من بعيد، مؤجلين زيارته إلى ما بعد زيارة المقابر.. فدخلنا مقبرة وادي السلام (الرهيبة) بسرعة.. وكانت المرحلة الأولى، زيارة قبور الأهل في المقبرة القديمة.. وهكذا ذهبنا إلى مدفن الوالد والوالدة ثم القبر الرمزي لشقيقي خيون (أبو سلام) الذي أعدمه نظام صدام المجرم بتهمة الشيوعية دون أن يسلمنا جثته، ثم زرنا قبور شقيقتي ام جواد
وقبر (ابنة أخي خيون)، وكذلك قبور خالتي وعمتي وابن عمي، وابن خالتي (رسن رشيد أبو عماد)، وجميع قبور الأقارب، كذلك زرنا قبور والد زوجتي المرحوم حسين سيد فرج الكعبي وأعمام وأخوال أم (حسون )، كما زرنا والد ووالدة وأخوة وأقارب الصديق عباس غيلان الكعبي، ولم تستغرق كل هذه الزيارات أكثر من ساعتين، بسبب أن جميع هذه القبور تقع في جهة واحدة من جهات المقبرة القديمة..
ولأننا مازلنا في المقبرة القديمة، فقد قررنا زيارة قبور الأصدقاء والزملاء في تلك البقعة أيضاً.. فكانت البداية من المدافن الخاصة ببعض الأصدقاء من قبيلة (البهادل)، وكان من الطبيعي ان يكون قبر المناضل الشيوعي الفذ والجسور إسماعيل كريم البهادلي( أبو علي)، اول القبور التي زرناها، فضلاً عن قبر زوجته (أم علي)، تلك المجاهدة الصابرة على ضيم المآسي التي تحملتها أثناء فترات السجون والاعتقال التي تعرض لها زوجها أبو علي في عهود الطغاة المختلفة.
بعد ذلك زرنا قبر الصديق العزيز جمعة عليوي البهادلي (أبو نزار) الناشط الاجتماعي الوطني النبيل، وقبري شقيقيه حسين وعبد الخالق، ثم زرنا قبر ابن شقيقه المطرب المعروف ضياء حسين، الفتى الجميل الذي كسر قلوبنا برحيله المأساوي المبكر ..
وفي المنطقة نفسها، كان قبر الشاعر الوطني الباهر والجنوبي الشجاع سمير صبيح، ومن حسن الصدف ان يكون قبره مضللاً بأفياء لطيفة تمنح الزائرين فرصة اطول للبقاء قرب هذا الشاعر الذي كان كريماً في دنياه، فاكرمته الأقدار بهذه النعمة بعد مماته..
وللأسف لم يتسنَ لنا زيارة كل قبور الأحبة الشعراء والأصدقاء، بسبب عدم معرفتنا بعناوينها، رغم اتصالنا ببعض الافراد من أسر هؤلاء الأحبة لمعرفة مواقع تلك القبور، مثل قبر الشاعر الشهيد كريم السيد، والصحفي طارق الحارس، والشاعر جليل صبيح و الشاعر الشهيد علي رشم، والمبدع الجميل عماد مكي والشاعر كاظم السعدي ، والشاعر جبار رشيد، والشاعر رياض الوادي، فكان الأمر موجعاً لي حقاً، إذ كنت أتمنى ان ازور قبورهم جميعاً دون استثناء.. ولكن لا بأس، فقد قررنا العودة مرة ثانية إلى النجف في الأسبوع المقبل وزيارة كل القبور التي لم تتسنَ لنا زيارتها أمس..
المرحلة الثانية من زيارتنا كانت مخصصة لقبور المقبرة الجديدة، وقد كان أخي وصديقي العزيز الحاج كاظم شبار ( أبو جواد) أول من زرنا قبره، وقد بكيت عند رأسه بحرقة، فهذا الرجل لم يكن عزيزاً عندي فحسب، إنما كان عزيزاً جداً عند شقيقي خيون، وغالياً جداً عند والدي ووالدتي، ولم نعامله معاملة (الصهر) إنما كانت معاملة الأخ والفرد العزيز في أسرة حسون (أبو خيون) ..
وقبل أن ننتقل إلى مقابر المرحلة الثالثة، ونذهب بصحبة الدفان أحمد الشيخ ظافر الشيخ صالح، الذي تطوع مشكوراً لإيصالنا لقبر الشاعر كريم العراقي، حاولنا عبثاً أن نصل إلى قبر شقيقتي ام حسين، فهذه الأخت الغالية على قلبي، رحلت قبل فترة وجيزة، ودفنت في المقبرة الجديدة، وهي مقبرة شاسعة واسعة.. ولأني لم أحظ بزيارتها من قبل سوى مرة واحدة، فقد (تهت) بين المقابر ، وتعبت جداً دون ايجاد قبرها.. فاتصلت بشقيقي (أبي كرار) ليرشدني إلى قبرها حتى لو بالوصف.. لكنه أقنعني بصعوبة ذلك، واتفقنا ان نزور قبرها سوياً في الزيارة القريبة القادمة..
الآن وصلنا إلى (مقتلي)، ونقطة ضعفي وانكساري، قبر رفيق مسيرتي، ومثوى صديق صباي وشبابي وكهولتي: كريم العراقي.. كريم الذي يرقد بكل هدوئه في المقبرة النموذجية، وهي مقبرة عصرية تتوفر على شروط ومواصفات هي اقرب إلى المقابر الاجنبية.
لم يكن قبره صغيراً، ولا كبيراً أيضاً، لأن من توصيات بل وشروط ادارة هذه المقبرة، أن لايكون القبر كبيراً، حتى لو كان صاحب هذا القبر (كبيراً) بحجم كريم العراقي .. وطبعاً فإن شقيق كريم، (الشيخ عبد الزهره السويعدي)، لم ينسَ حين دفنه أن يضع العلم العراقي عند رأس كريم (العراقي)، فضلاً عن لوحة وصورة له، وبعض لوازم القبر العادي .. ولا اكشف سراً لو قلت إني بكيت كثيراً حدّ أن صديقي عباس (ابو اثار ) منعني من مواصلة البكاء، بل وأبعدني عن القبر قائلاً 🙁 كافي يافالح والله راح تعمى من البچي ..)!
لقد تكلمت امس مع كريم كثيراً، والقيتُ على (مسامعه) وأنا أقف عند رأسه مقطعاً غنائياً لفيروز، كنا نحبه ونردده معاً لأكثر من خمسين عاماً. المقطع يقول: (سوه اربينا .. سوه إمشينا .. سوى قضينا ليالينا .. معقول الفراق يمحي أسامينا )؟!
حدثته عني وعن حياتي خلال فترة ما بعد رحيله.. عتبت عليه، بل وزعلت، لأنه رحل دون أن يودعني.. وكعادته كان كريم صامتاً، ويبدو حزيناً أيضاً، لأن ثمة اغنيات كثيرة لم يكتبها كريم بعد، وامنيات كثيرة رحل دون أن يحققها بعد، وضحكات لم تزل مخبوءة لم يطلقها، وأنهاراً لم يشرب من مائها العذب ..
كما شعرت أن في صدر كريم ولسانه، عتباً نبيلاً على الشعراء الشعبيين .. -لماذا تعتب على الشعراء الشعبيين يا أبا ضفاف؟!
لأن أحداً منهم لم يزرني.. واقصد الشعراء جميعاً، وليس الشعراء الشعبيين فقط.. رغم أني أقدر صعوبة زيارات المقابر ..
-وهل انت زعلان عليهم ياكريم؟
شعرت أن كريم يضحك بصوت عال- هكذا تخيلته- وهو يقول:
وهل رأيتني يوماً ( زعلاناً) من صديق .. أنا مثلك يا فالح، أموت ولا أزعل او أحقد على صاحبي..!