بقلم : فالح حسون الدراجي ..
أن تفقد صديقاً عزيزاً فهذا أمر محزن ومؤلم دون شك، لكن ماذا لو كان هذا الصديق زميلاً ورفيقاً وأخاً عزيزاً، و قريباً جداً من قلبك، بل هو في سويداء القلب .. ؟ ودعوني أقول: ماذا لو كان هذا الصديق كريم العراقي.. كريم الإنسان الطيب، الودود، العذب، المتسامح، النقي، عفيف اللسان والقلب واليد والنفس.. كريم الذي لم يخشن قلب صاحبه يوماً، ولم يرمِ صديقه بكلمة خشنة مهما كانت الأحوال والظروف، مثلما لم يتعرض يوماً إلى أعراض الناس قط..
كريم العراقي، الذي قضيت بصحبته ثلاثة أرباع عمري.. أي ما يقارب الستين عاماً، شربنا فيها كؤوس المرارة والفشل والخيبات والخسائر حتى الثمالة، وشربنا فيها أيضاً كؤوس الروعة والجمال والنجاح والإبداع والتألق حتى آخر رشفة عزيزة في تلك الكؤوس الغالية.. بحيث ارتوت عروقنا وازدهرت أيامنا بسلسبيل تلك النجاحات، وشبعت نفوسنا من عطر ذلك الجمال وتلك الروعة..
لقد كنا أنا وكريم (أخوة) وإن كنا من أبوين وأمّين مختلفين، بدليل أن أمي لم تكن تفرق بيني وبين كريم في حبها وعطفها وهداياها قطعاً، كما أن شقيقي الراحل أبا سلام كان يعامل كريم – مادياً ووجدانياً وأخوياً – نفس معاملتي.. والشيء نفسه كان يفعله كريم في تعامله مع أخوتي كاظم وقاسم وشامل وصلاح، إذ كان يعاملهم بنفس الحب والحنان الذي يتعامل به مع أشقائه رحيم وعبد الأمير وعبد الزهره ..
إذاً كان كريم صديقاً استثنائياً لي إذا جاز التعبير، ومن الطبيعي أن يكون تأثير فقدانه وغيابه استثنائياً بالنسبة لي ولمن كان في موقعي القريب من قلب كريم العراقي.. وكي أكون أكثر وضوحاً أقول – بعد مرور سنة كاملة على رحيل أبي علي- إن مفهومي للحزن ربما يختلف عما يفهمه غيري، فأنا لا أميّز بين حزن وآخر، ولا بين لون مصاب وآخر، فالحزن هو الحزن مهما كان حجمه وشدته، ولون المصاب الأسود هو نفسه عندي لا يتغير قطعاً..
صحيح أن هناك حالات حزنت فيها حزناً ثقيلاً كسر قلبي بسببها كسراً، وأعترف بذلك، فمثلاً رحيل والدتي المبكر قد أصابني بذهول الأسى والفجيعة – ثمة ذهول ودهشة للأسى والفجيعة لا يعرفها إلا من أصابتاه-
كما أن رحيل والدي الطيب الناصع، الفريد في عفته، قد أفقدني توازني، وجعلني قريباً من حافة الجنون، ليس لأن والدي عزيزاً جداً فحسب، بل لاني كنت أظن أن موت والدي – النموذج في تدينه ونزاهته وسماحته وروعته واخلاقه وزهده- خطأ ترتكبه الأرض والسماء – أستغفر الله – !!
لذلك ما زلت حتى هذه اللحظة ابكي على قبرَي أبي وأمي بنفس اللوعة والأسى وحرقة القلب والدمع التي كنت فيها وعليها في زيارتي الأولى لقبريهما في مقبرة وادي السلام .. وطبعاً فإن هناك اكثر من فقد وغياب عزيز أوجعني وأدمى قلبي بدءاً من رحيل شقيقي الشهيد الشيوعي خيون حسون الدراجي، وابنته هناء، وموت شقيقاتي المفجع، وفقد خالتي الوحيدة، وأبنائها الأعزاء، ورحيل عمي وأبناء أعمامي
في البصرة وبغداد .. وانتهاءً برحيل عدد غير قليل من الرفاق والزملاء والأصدقاء والأقارب ..
ولا أبالغ أبداً حين أقول إن حزني على غياب هؤلاء جميعاً متساوٍ في وجعه وتأثيره وضلاله السود ..
رغم أن بعض هذا الحزن يكسر القلب ويدميه كما قلت قبل قليل..
ولعل نعمة الشفاء من جروح المصائب، الذي منحتنا إياه الطبيعة، هو أعظم الهدايا المجانية في هذا الزمان الذي لا تجد فيه هدية مجانية بالمرة.
وصدقاً إني كنت أفكر مرات عديدة حين كنت فتى وشاباً، واسأل نفسي: كيف يمكن لي العيش لو ماتت أمي، وكيف لهذا البيت ان يبقى مسقوفاً لو رحل والدي .. وكيف وأين اجد شقيقاً رحوماً عطوفاً عليّ مثل شقيقي خيون؟!
لكني عشت بعد رحيل أمي، وظل بيتنا مسقوفاً أيضاً رغم غياب عموده الأساسي، كما وجدت في بقية أشقائي من الحب الذي كنت اجده في أخي خيون..
إن الحياة تمضي مهما كانت حركة عجلتها، والأيام تتجدد رغماً عن أنوف الراضين والرافضين
، وطبعاً فإن القلوب المجروحة تشفى وتطيب، بما فيها قلبي المزدحم بالجراح، فها أنا أعيش الحياة بكل تفاصيلها وروعتها، و أتنفس الشعر والجمال والموسيقى كل يوم بل كل ساعة، متعطراً باريج محبة الأصدقاء والرفاق الأعزاء، لاسيما أصحاب – الزمن الجميل- وأقصد زمننا الجميل نحن وليس زمن غيرنا-..
نعم تشفى الجروح وتطيب، ولكن هل تشفى الذاكرة وتطيب ؟!
قطعاً لا ..!
فالحزن الأسود الذي فجرته الفجيعة وغياب العزيز، سيتحول تدريجياً نحو صندوق الذاكرة، ويدخل في تلابيبها وخلاياها، فلا يترك لك فرصة واحدة للنسيان .. بمعنى أن الحزن الموجع الذي سيتلاشى من القلب بمرور الأيام، لا يذهب إلى العدم قطعاً، إنما يتحول وينتقل شيئاً فشيئاً إلى الذاكرة، بحيث يصبح جزءاً مهماً منها .. لذلك تراني أتذكر أمي في اليوم الف مرة، واتذكر أبي كلما صعدت ونزلت أنفاسي، واتذكر شقيقي خيون وصديقي كريم العراقي ومن كان بحجمهما حباً، كلما نمت واستيقظت وأكلت وشربت ..
وهذا برأيي أقسى أنواع الجراح التي يتركها غياب أب أو ام أو شقيق أو صديق عزيز .. عزيز جداً ..
وأمس الأحد، حيث كان يوم رحيل كريم العراقي، لم احتج إلى من ينبهني إلى هذا الموعد المفجع، بل على العكس أنا الذي نبهتهم جميعاً، فقمت ومعي رفاقي وزملائي في هيئة تحرير جريدة الحقيقة يتقدمهم الزميل والصديق رحيم العراقي- شقيق كريم- وكذلك الزملاء عدنان الفضلي وعلاء الماجد وعباس غيلان وبقية الزملاء، بإصدار عدد خاص بهذه المناسبة المؤلمة.. فكان هذا العدد الذي بين أيديكم الآن، العدد الذي نستذكر فيه كريم العراقي في يوم رحيله الذي مر عليه عام بالكمال والتمام..
أحد الزملاء نقل لي كلاماً اوجعني، يقول فيه: أعتقد أن فالح بالغ كثيراً في أساه وحزنه على رحيل كريم العراقي، فكريم ليس اهم من الشاعر الفلاني والشاعر العلاني، كما أن هناك اشخاصاً رحلوا كانوا أقرب من كريم إلى فالح، لكنه لم يفعل في رحيلهم كما فعل مع رحيل كريم!
وكان جوابي لذلك الزميل بجملة واحدة، قلت فيها:
هاتوا لي شخصاً يحمل قلباً كقلب كريم، وروحاً مثل روح كريم، هاتوا لي صديقاً وفياً طيباً شريفاً عشت وإياه ستين عاماً دون زعل أو خلاف أو اختلاف، هاتوا لي مبدعاً ثراً ملأ الدنيا شعراً وغناء وإبداعاً، ولم يقل يوماً قط أنا شاعر كبير أو صغير ..؟
هاتوا لي صديقاً لم ينكر صداقته لصديقه أمام الجميع وهاتوا صديقاً لم يقل لي أُفٍّ طيلة نصف قرن!..
وصدقاً لو وجدتم مثل هذا الصديق، فسيكون وزنه في الحب والمودة عندي كوزن كريم العراقي أو ربما أكثر.. لكن هيهات !