بقلم : حسين الذكر ..
هكذا وجد نفسه .. وعرفه الناس .. بهمان حكاية الزمان والمكان .. بهمان لم يعرف رحم أمه ، فتجاوزته الشرائع بأحكامها ، ليحل فيه ما حرم على غيره ، ولأنه ولد من فطر الأرض داست عليه أقدام الكائنات .
بهمان.. كرة الألم المتدحرجة ،على قلق جرح لا يندمل وانين ضرس لا ينقلع . بهمان.. زيارة تاريخية لضمير قد مات ، حينما وجد نفسه صاحيا في فضاء لا اثر لحياة فيه.
حينما كان بهمان يدبي على قارعة الطريق أخذت الديدان تقطع عليه طريقه فأضطر للبحث عن معبر آخر . ذات يوم وفي غفلة من الزمن تجرع الحقيقة وعض على الواقع وأخذ يستنطق سماءه . أراد ان يدعو ربه ، فتداركته طيور الأرض ، تذرق على رأسه وتنقر جسده .. نزف بهمان من شدة وقع الزلق وركن الى جوار نخلة كان عثقها يحمل حجارة فتساقطت تدك عظامه وتصقل آلامه .. بهمان.. لا يملك لسانا يستصرخ به من حوله ، لكنه فرح بصم لا يسمعه شتائم الآخرين .
في يوم غير محسوب على مفكرة الزمن او ذاكرة الانسان ، رغبّ بهمان ان يشتري لعبة في يوم ممطر ولأنه لا يجيد العوم فكر بالتحليق والقفز فوق مسطحات الآدميين ، ولأنه لا يمتلك النقود اللازمة ، أراد ان يسرقها ولعدم تمكنه من رؤية الأشياء أبدل الفكرة ، فقررّ رسمها لكن يديه لا تقوى على مسك القلم ولا تمتهن تحريك الفرشاة ، فأراد ان يحلم ، ولأنه لا ينام سار واقفا وسط ظلام النهار لعله يهتدي للعبة ما ، ولأنه لا يحب التفكير ولا يجيد التدبير لجأ الى إعادة نواياه، وترتيب أولوياته، أحساسا بنشوة الدوران وتذوق ذروة الألم.
اليوم بهمان في قمة سعده وهو يثير الإعجاب ، فقد شوهد مصادفة يركن نفسه تحت سياط الشمس وكأنه يستجدي بعض ضيائها وربما حريقها ، لكن الصبية وكعادتهم، لم يتركوه لحاله وتفننوا بمتابعة المشهد ، فهم يجيدون فن عدم تفويت الفرص ، وها هو بهمان بأجمل صوره الممكنة. تجمهروا حول كرة اللحم المتكورة بعيون زرقاء لكنها مغمضة ، لقد أثار في احدهم الفضول واخذ يركله نحو الهدف واقترب من الشاطئ وقرر ان يسدده بعيدا ، الا ان الرمال أبت ان يغادرها بهمان، فاحتضنته بطياتها ، بل دفنته في أغوار كنوزها ، فهو سر من أهم الأسرار السابقة واللاحقة وربما لا يجود الزمان بأمثاله . بكاه الصبية جميعا بعد ان ضاعت منهم لعبة لا يمكن ان تعود .
وظل بهمان حبيس بطن الحوت ،حتى غص به شاطئ آخر ، لكن بهمان تعلم من الدرس وقوت عظامه واشتد ساعده واتسعت حدقتا عينيه الى مدى يمكنه رؤية آفاق سماوية زرقاء فوق حاجبيه ، فأدرك بالتكرار أنها زرقة وهمية ، شبيهة بظلمات الرمال وأحذية الرجال وركلات الأطفال .
هذه المرة افاق بهمان حدا استطاع من خلاله ان يميزها برغم عتمة النور الجاثم على بؤبؤ عينيه ، وقرر ان يزيحها من على رأسه ويقلعها من فوق صدره ويكسر أصفاده .
صحيح انه ظل حافيا الا انه لم يدنس نعليه وترجل عن زمام نفسه وأخيرا وقف بهمان ليأخذ ثأره .. وأنى له ذلك … فقد مات بهمان عند أول بصقه بريئة على وجه الارض .
.لم يبق احد الا وبكى بهمان. حزنوا عليه طويلا ، لأنهم لم يألفوه من قبل ولا بعد. وانتهى بهمان دون ضجيج يذكر او نشيج يسمع وغادر الزمان والمكان ، كأول مرة حط بها على قارعة الطريق ، لكنه لم يترك اثراً ولم يخلف شيئا ولم يعرف ولم يتعرف على احد، لاشيء فيه يستحق الحياة ، الا حياة هانت عنده وتساوت في مقاييسه وتاهت في متاهاته .
بهمان كتب في قصص الأولين والآخرين لكنه لم يكن موجودا بتاتا اذ فارق الحياة قبل ان تلده أمه .