بقلم : فالح حسون الدراجي ..
ما حدث في سوريا مؤخراً يدعو للدراسة والبحث والتمحيص، مثلما يدعو للدهشة والاستغراب أيضاً، وذلك لأسباب عدة، من بينها ضياع المعايير التي كان معمولاً بها منذ سنوات، وسقوط المقاسات التي كانت تقاس بها الأشياء، وتصدر على ضوئها الأحكام الدولية سابقاً.. ومثال على ذلك، أن أمريكا أعلنت رسمياً عن إجرائها اتصالات مباشرة – واكرر اتصالات مباشرة- مع هيئة تحرير الشام بقيادة أحمد الشرع -أي مع الجولاني – على الرغم من أن أمريكاً ودولاً غربية أخرى كانت قد صنفت الجولاني إرهابياً، “بل ووضعت مكافأة قدرها 10 ملايين دولار لمن يأتي به حياً أو ميتاً، كما صنف الجولاني أيضاً. كـ”إرهابي عالمي” في 16 أيار عام 2013 بموجب الأمر التنفيذي رقم 13224، وبموجب ذلك تم “حظر جميع ممتلكاته والفوائد العائدة عليها التي تخضع للولاية القضائية الأمريكية وتم كذلك منع الأمريكيين من إجراء أي اتصالات أو معاملات مع الجولاني”، وفقا للخارجية الأمريكية.. كما حذرت واشنطن من أنه “يدخل في إطار الجريمة كل من يقدم الدعم المتعمد عن علم، أو محاولة توفير الدعم المادي للجولاني، او لجبهة النصرة التي صنفتها الولايات المتحدة كمنظمة إرهابية أجنبية”، علماً بأن احمد الشرع هو ذاته أبو محمد الجولاني، وجبهة النصرة هي ذاتها هيئة تحرير الشام !!
فماذا عدا مما بدأ، وكيف اتصلت أمريكا بجبهة النصرة- أي تحرير الشام- اتصالاً مباشراً وليس عن طريق طرف ثالث، وكيف عقدت مفاوضات مباشرة مع قائدها احمد الشرع أي ابو محمد الجولاني، إذا كان الإتصال بهما يعد جريمة يعاقب عليها القانون الأمريكي.. فهل يستحق (سقوط ) نظام الأسد أن تضحي أمريكا لأجله، بصورتها الاخلاقية، و (قيمها الديمقراطية) ؟!
والشيء نفسه يمكن أن يقال عن بريطانيا ودول اوربا، والأمم المتحدة، بعد أن رأيناهم يتهاتفون على التقرب لهيئة تحرير الشام بل ويتدافعون على بوابات دمشق لمقابلة ( الإرهابي) الجولاني الذي لم يزل حتى هذه اللحظة مع (نصرته) مصنفين على قوائم الإرهاب، وإلا ماذا يعني أن يهرع المبعوث الأممي (غير بيدرسون) إلى دمشق أمس لمقابلة الجولاني الذي لم يلتق حتى هذه اللحظة أصحابه القطريين وسادته الأتراك.
والمصيبة أن وفوداً أوربية عديدة أخرى تتواصل مع إدارة الشرع وتتسابق على نيل رضا هؤلاء الذين كانوا قبل أسبوعين ( إرهابيين)، حتى أن بريطانيا العظمى ارسلت وفداً رسمياً رفيع المستوى إلى دمشق لإجراء مباحثات مع السلطات السورية الجديدة، كما عرضت دعماً مالياً لهيئة تحرير الشام.. وياسلام سلّم ..!
إن تهافت أمريكا وبريطانيا ودول اوربا على التودد لأصحاب اللحى في سوريا لم يأت من فراغ قط، كما لم يأت من أجل سواد عيون الجولاني، أو ربما كرهاً بنظام الاسد فحسب
إنما جاء في الأساس لأجل مصالح هذه الدول.
لذلك لم يذرف أحد من جميع الدول – الصديقة والعدوة- دمعة واحدة على رحيل بشار.. ناهيك من أن جميع هذه الدول -الصديقة والعدوة ايضاً – وافقت على سقوط نظام بشار- وطبعاً فإن لهذه الدول حججها ومبرراتها..
والسؤال: من هي الدول التي وافقت أو اتفقت على سقوط نظام الأسد؟.. والجواب بشكل مؤكد هي أمريكا وبريطانيا وفرنسا وتركيا وقطر وإسرائيل وروسيا وايران-نعم روسيا وايران-ولا عجب في ذلك، فإيران أدركت منذ ثلاثة شهور تقريباً أن بشار الاسد يخونها، ويرسل إلى الموساد وحكام تل أبيب معلومات استخبارية عن أسلحة إيران وعناصرها في سوريا ولبنان – وقد تأكد صحة هذه المعلومة عبر الوثائق التي ظهرت بعد رحيل الاسد – إضافة إلى أن أمريكا أوصلت لطهران عن طريق تركيا، تعهداً مفاده أن (حيادية إيران)، وعدم وقوفها عسكرياً مع الاسد في مواجهة هيئة تحرير الشام، سيكون له ثمن كبير تقبضه طهران قريباً، وربما يكون الثمن رفع بعض العقوبات عنها. أما روسيا، فستكون جائزتها عن عدم اشتراكها في المعارك السورية، هي انهاء الحرب مع أوكرانيا حسب الشروط التي وضعتها موسكو منذ أولى معاركها مع كييف ..
في حين أن أمريكا ستربح من سقوط نظام بشار، ربحاً عظيماً يتمثل بانهيار ركن مهم من أركان محور المقاومة.. اضافة إلى إبعاد خصمها الروسي عن هذا الجزء المهم من الشرق الأوسط، بينما اوربا لاتريد جائزة اكثر من (راحة البال)، وايقاف الهجرة اليها، وطبعاً لن يتحقق ذلك في ظل نظام بعثي، جعل من أراضيه ومبانيه مقرات للحرس الثوري الايراني، ومخازن للصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة الإيرانية .. أما منافع تركيا من سقوط نظام بشار، وانتصار هيئة تحرير الشام، فأعتقد بل اجزم ان أنقرة هي الرابح الأكبر في هذه الغنيمة، لأنها ستأخذ الجمل السوري بما حمل.. بدليل أن بعض حكومات الدول الأوربية بدأت منذ اليوم التفاوض مع تركيا وليس مع السلطة السورية الجديدة، وكأن اردوغان ولي أمر دمشق !
وعلى سبيل المثال فإن وزير خارجية بريطانيا تباحث مع حكومة تركيا بشأن العلاقات البريطانية السورية الجديدة !!
إن معرفة الحقيقة برأيي والوصول إلى السر الذي وقف خلف سقوط دولة البعث في سوريا بهذه الصورة العجيبة الغريبة، والسريعة، مع فهم ماهية هذه (الدراما السورية) التراجيدية بل والكوميدية أيضاً..يجعلنا نفهم طبيعة ما يحصل هذه الايام في الشام، بدءاً من محاولة تحسين صورة الجولاني، وتبييض وجه هيئة تحرير الشام الإرهابية، وليس انتهاءً بتعظيم وتفخيم مساوئ نظام بشار- مع إني أكره وأمقت هذا النظام الدموي الفاشي – لذلك أنا أعتقد -ومعي الكثير- بأن ما حدث في الشام خلال الأسبوعين الأخيرين لم يكن طبيعياً بالمرة، سواء في سرعة سقوط دولة الأسد، أو في صورة التوافق الغريب للقوى الاقليمية و الدولية المعروفة باختلافاتها، وبتناقضات أهدافها ومصالحها في الملعب السوري، وهو لعمري توافق كان مستحيلاً قبل هذا اليوم.. ولكنه حدث فجأة، واتفق الجميع على سقوط الأسد رغم العهود والاتفاقات والصداقات والروابط التي تربط نظام بشار ببعض هذه الدول !
فمن يصدق قبل شهر مثلاً أن حكومات روسيا وتركيا وايران وأمريكا واوربا واوكرانيا واسرائيل ستتوافق على إنهاء سلطة بشار العلمانية، وإحلال سلطة الجولاني الإسلامية المتشددة بدلاً عنها.. علماً أن بين بعض هذه الدول وبعضها الآخر عداوة وكراهة وحروباً، سالت بها أنهار من الدماء.
إن محاولة صياغة جولاني (آخر) ، وتحويله من خانة
التطرف إلى البراغماتية… ونقل صورة خطابه المتشدد إلى صورة النهج المعتدل، ومحاولة صنع ( قناع ديمقراطي ) لهذا الإرهابي الذي قتل قبل فترة ليست بعيدة 300 كردي في يوم واحد، وذبح عشرات المسيحيين والدروز في أماكن مختلفة ونحر عدداً من العلويين الذين وقعوا أسرى بيديه قبل سنوات – وجميعها موثقة بالصوت والصورة- لهو أمر صعب جداً إن لم يكن مستحيلاً، فالعملية لاتتم بهذه السهولة قطعاً
والرجل الذي خلع عمامته قبل سنوات، واستبدل زيه الديني بالزي العسكري، لا يمكن قبوله مدنياً بمجرد ارتدائه الزي المدني، ولا بتشذيب لحيته أو حلقها.. وحتى لو حصل ذلك وتم قبوله بصورته الجديدة، فهل سيتحول رفاقه في جبهة النصرة بجرة قلم إلى شباب ديمقراطيين مدنيين، وهم ذوو الأيادي الملطخة بالدم، أو هل يرضى هؤلاء بحلاقة أو تشذيب لحاهم العفنة؟
إن الأمر لاينتهي برغبات احمد الشرع وفذلكاته فحسب، ولا بأمنيات أمريكا أو مشتهيات تركيا، خاصة وأن قضية هذا الجولاني قضية عقائدية طويلة ومعقدة، تبدأ من كتب ابن تيمية التي قرأها في مطلع شبابه، ولا تنتهي عند الأفكار المتشددة التي درسها وهضمها على يد شيوخه من عتاة الإرهاب امثال المجرمين أبي مصعب الزرقاوي، و أيمن الظواهري، وابو بكر البغدادي وغيرهم من المتشددين.
هذا من جهة الجولاني وجبهة النصرة، ولكن ماذا عن الفصائل السورية المسلحة المتحالفة مع ( النصرة )، وهل ستقبل بإلقاء سلاحها والتحول إلى الصف الديمقراطي، وارتداء الزي المدني ( الإفرنجي) كما يسمون اللباس المدني، لمجرد ان يطلب منهم الجولاني ذلك .. ناهيك من الأكراد السوريين”قسد” وقنبلتهم الموقوتة والجاهزة للانفجار اليوم أو غداً .. فضلاً عن قنبلة العلويين – المسلحين تسليحاً جيداً – والخائفين على حياتهم ومستقبلهم ومصير أبنائهم، علماً ان نسبة العلويين في سوريا نسبة عالية تشكل اكثر من 15 بالمائة من تعداد الشعب السوري، وجلهم من اتباع الاسد، وابتلاعهم أو إخضاعهم أمر صعب جداً.. ويقال انهم قتلوا امس 15 مقاتلاً من تحرير الشام في كمين محكم ! .. واذا اوقفنا الحديث عن قنابل الداخل الموقوتة، كيف سنوقف الحديث عن القنابل الاقليمية والدولية التي تهدد سوريا الجولاني من كل حدب وصوب، إذ بمجرد أن لا ينال أحد البلدان المذكورة حصته المقررة من الكعكة حتى تراه يقلب الطاولة على رأس الشام وتحريرها وزعيمها، وكلهم قادرون على قلب الطاولة بل وكسر أرجلها أيضاً !!
فهل ستصمد حكومة اللحى أمام قنابل الأعداء والأصدقاء في الداخل والخارج ؟
الجواب سيأتي في قادم الأيام، مع أن الجواب ليس صعباً معرفته اليوم؟