بقلم : فالح حسون الدراجي …
امس السبت ( 31 تموز 2021 )، أصبح عمري سبعين عاماً بالتمام، فقد ولدت في مثل هذا اليوم من العام 1951 في ناحية كميت التابعة لمحافظة العمارة .. أما كيف عرفت أن ولادتي تمت في هذا اليوم وليس في غيره، خاصة وأن الناس في ذلك الزمن، وفي تلك المناطق الريفية البعيدة، لم يكونوا على معرفة تامة بشهادة الميلاد أو بتدوين تواريخه لذلك كان تاريخ الولادة يحفظ شفاهاً من قبل الأسرة، خاصة إذا تزامنت الولادة مع أحداث كبرى تقع في البلاد، كالفيضان أو تفشي وباء الطاعون، أو سنة الفرهود، أو حرب (البرزاني) أو غيرها.. فيقولون ولد فلان في سنة الفيضان، وولدت فلانة في يوم موت الملك غازي!
أما ولادتي، فقد حفظت والدتي رحمها الله تاريخها فهي تقول (إن فالح جاء الى الدنيا ليلة الأول من آب اللهاب الذي (يشلع البسمار من الباب)..وهكذا رحت احتفل بعيد ميلادي في آخر يوم من كل تموز.
المهم، أن عمري اليوم أصبح سبعين عاماً، وها أنا أجلس محتفلاً مع اسرتي الصغيرة في بيت يقع في آخر بقاع الكرة الأرضية، وعلى بعد عشرات الآلاف من الأميال عن مسقط رأسي في الجنوب العراقي.
نعم، أجلس الان حائراً، لا أعرف إن كانت (السبعين) مدعاةً للحزن والفزع، فأخاف منها، وأفزع من اقتراب النهاية، أم هي مدعاة للفرح، لأني استطعت اجتياز موانعها التي اعترضت حياتي مرات عدة، فكان كل مانع يكفي لحفر قبرين لي، وليس قبراً واحداً.. ؟!
وهل يحق لي الفرح وأنا اعرف أني حققت الكثير في هذه “السبعين” أهمها أني بقيت وفياً لبلادي وعقيدتي، واسرتي واصدقائي جميعاً، ولم أفرط بواحد منهم، أو أسمح لنفسي بخسارة أي منهم، مهما كانت الاسباب، وهذا عندي والله أعظم المكاسب المتحققة.
أجلس الليلة وسط اسرتي مبتهجاً لفرح زوجتي، وبهجة ابنائي، ومحدقاً بالشموع الملونة المتلألئة، بينما قطار العمر أراه يمر أمامي مثل شريط سينمائي، حيث يتوقف تارة عند هذه المحطة، وتارة عند تلك..
أجد حياتي أمامي في محطات خضر مضيئة، ملونة، مثل ليلة عرس، ومحطات اخرى كالحة، مظلمة كأنها ليلة وداع أخير !
محطات مختلفة تماماً، فهنا انتصرت، وهنا انكسرت، هنا فرحت، وهنا بكيت .. وهنا وهنا وهنا ..
هي سبعون عاماً طويلة ومعقدة، فيها سبعون ألف (سالفة) وقضية وصورة.
ويقيناً أن مساحة هذا العمود لن تكفي لمحطات عمر سبعيني متحرك كعمري، لذا سأترك الحديث عن محطات الأسى والوجع لموعد آخر، وأكتفي بالمرور على اربع محطات في حياتي، كان لها تأثير كبير في مجمل مراحل عمري.
المحطة الأولى كانت في موسم العام 1960، والذي أسميته (موسم الهجرة الى الشمال) رغم أن هجرتنا كانت قبل (هجرة) الطيب صالح بست سنوات، وقد كانت هجرتنا من كميت الى بغداد في باص خشبي خاص استأجره الوالد لنا بعشرة دنانير، حيث استغرقت الرحلة الى العاصمة أكثر من يومين متواصلين، بسبب رداءة الطرق، ورداءة السيارة، ورداءة الطقس، فقد جاء سفرنا في منتصف تموز، ولكم ان تقدروا معدل السرعة التي يسير فيها سائقنا الورد في تموز !
وفي الحقيقة فقد كانت هذه الرحلة ” البائسة” مفصلاً مهماً في حياتي، إذ لا أحد يعلم كيف سيكون مستقبلي لو بقينا في ناحية كميت ولم نهاجر الى بغداد عاصمة الحياة والجمال والعلم والانوار ؟
المحطة الثانية كانت في منتصف تموز أيضاً، العام 1973، وتتمثل هذه المحطة بتسلمي بطاقة العضوية في الحزب الشيوعي العراقي، وقد سلمني هذه البطاقة مسؤولي الحزبي آنذاك، الرفيق حيدر فيلي، أطال الله في عمره وشافاه.
والمناضل فيلي اصبح فيما بعد عضواً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، وعضواً في المكتب السياسي للحزب الشيوعي الكردستاني، ووزيرا في حكومة الإقليم لدورتين ممثلاً عن الحزب الشيوعي ..
لقد تسلمت العضوية في حفل زواجي، في مدينة الثورة، وأذكر أن الرفيق فيلي صافحني، ودس في جيبي مظروفاً، وهو يقول:
رفيقي هاي ” هربة ” الحزب لك بمناسبة زواجك !
فتحت المظروف بلهفة، لأجد فيه بطاقة العضوية، مدوناً فيها اسمي الحزبي (عبد الأمير)، مع الوصايا العشر للخالد فهد .. ليلتها لم أنم فرحاً حتى الصباح ..
وطبعاً فقد كان لهذه العضوية دور كبير ومؤثر في حياتي، وطبعاً ليس هناك أحد ايضاً يعرف ماذا سيكون وضعي لو لم أكن شيوعياً ؟
المحطة الثالثة، كانت ولادة حبيبي وابني البكر إحسان (حسون)، الذي جاءنا كما تجيء الغيمة الخضراء فوق ارض صحراء جرداء عطشى، فكان لوجوده مذ جاء في شهر تموز كذلك، وحتى هذه اللحظة، أهمية عظيمة في حياتي، وحياة كل الأسرة.
لقد أسميته ” حسون” اعتزازاً بأبي الحاج حسون، الذي لم أنسه، ولن أنسى طهره ونزاهته، وكدحه وجهاده من أجلنا حتى الموت !
المحطة الأخيرة، كانت في فجر يوم صدور العدد الأول من جريدة الحقيقة قبل عشر سنوات، وسأختصرها لكم بسطرين حيث لم ينم احد منا ليلة صدور جريدة الحقيقة، وهذا القلق والفرح شمل جميع العاملين في الجريدة، أما أنا شخصياً فقد كنت ساهراً حتى الفجر، بل كنت أجلس عند باب الجريدة في انتظار ” المعتمد” الذي سيأتي لنا بالوليد حاملاً معه البشرى والأمل والضوء الذي ستتكحل به أعيننا..
لقد صدرت الحقيقة، فتغير مع صدورها الكثير من حياتي وحياة زملائي.
اخيراً، دعوني أرفع الكأس بصحتي وصحتكم جميعاً، وصحة سيدنا العراق، العراق كله، من كميت حتى ” هندرين ” .