بقلم : كاظم فنجان الحمامي …
عندما نتناول تاريخ الحركة التأسيسية للرياضة في الجنوب, لا بد أن يُذكر اسم الأستاذ (كاظم جبارة الحبيب), الذي ساهم في غرس بذرة التأسيس الأولى في أرضية البناء والتكوين قبل ما ينيف عن ستين عاماً خلت, وسقاها بماء الدعم والاهتمام والمؤازرة، حتى نهضت هذه الحركة بجهود رجالاتها الأوفياء ورموزها العصاميين ومنهم بالتأكيد شيخ الرياضيين (كاظم جبارة) رحمه الله.
كان كاظم جبارة الحبيب من رجال الرعيل الأول الذين افنوا أعمارهم في تأسيس أولى مرتكزات الحركة الرياضية الفتية في البصرة الزاهرة دوما بأهلها, وكان (أبو جواد) من الرواد الذين أسهموا في تطويرها وتغذيتها بالعلوم والمفاهيم الحديثة, والارتقاء بها نحو الملاعب الدولية.
فقد واصل هذا الرجل دعمه المتواصل, وعطائه الكبير, وتضحياته الجسيمة, فجعل من كرة القدم واقعاً ملموساً, وواجهة مشرفة بعد أن تكبّد تبعات غياب الدعم الحكومي في تلك الأيام الخوالي, بيْد أنه نجح في إقناع المؤسسات الحكومية بجدوى قيام الرياضة, وأهميتها الصحية والاجتماعية والثقافية والفكرية.
له سجل حافل بالانجازات الرائعة والبطولات المحفورة في ذاكرة الحركة الرياضية الناهضة في جنوب العراق, لا شيء يفصل هذا الرجل عن أحلامه الرياضية وتطلعاته المستقبلية مهما تراكمت المعوقات, فقد شغف حبا بكرة القدم, وخصص لها وقته وجهده وأمواله, رغم اعتلال صحته, ومشاغله الحياتية والوظيفية, ورغم ارتباطاته الاجتماعية الملزمة, فلم تثن عزيمته الظروف عن الإخلاص لمحبوبته التي انصرف لها كليا.
بدأ مشواره الكروي مع نادي الأمير الرياضي في الخمسينات, في الزمن الذي كانت فيه الرياضة في منأى عن أبسط مستلزمات الدعم والتشجيع والإسناد, فشغل منصب نائب رئيس الهيئة الإدارية للنادي في بداية تأسيسه, بيد إن ظروف ولادة نادي الأمير كانت متعثرة تماما بسبب غياب الدعم الحكومي آنذاك لهذا النادي ولشقيقه نادي الاتحاد الملكي الرياضي, فانبثقت في ذلك الحين فكرة تأسيس (نادي الجنوب الرياضي) اعتمادا على دعم وتشجيع أبناء الجنوب الذين كانوا سباقين إلى تدبير وتوفير احتياجاته من مدخراتهم الخاصة, رغم ضعف إمكانياتهم المادية, وهكذا ولد نادي الجنوب في رحم الطبقات الشعبية البصرية المحرومة, فانطلق من الصفر, وحقق في غضون فترة قياسية وجيزة انجازات كبيرة, وتجاوز الصعوبات التي اعترض طريقه في البداية, واستمد قوته من الدعم الجماهيري اللامحدود, فلعب في ملاعب الدول المجاورة, وكانت محطته الخارجية الأولى في إيران, حيث لعب في ملاعب عبادان, وحصد فيها أولى انتصاراته, واستطاع كاظم جبارة الحبيب بدبلوماسيته المعهودة ومهاراته الإدارية الفذة, إن ينال احترام وتقدير الجاليات الأجنبية, فاستقبلهم شاه إيران في البلاط الشاهنشاهي ورحب بهم أيما ترحيب, والصورة المرفقة تشهد على انجازات نادي الجنوب, ودوره الريادي في خوض المباريات الرياضية الخارجية, وكان هذا النادي في نظر المحللين بمثابة المعهد الذي تدرب فيه أفضل اللاعبين الذين غذوا النوادي الأخرى بالدماء الشبابية الواعدة, ثم صار مصنعا لإنتاج الأبطال وتصديرهم إلى النوادي العراقية الحديثة التأسيس, حتى استنفذ امهر لاعبيه, وفقد توازنه, وكاد أن يخسر سمعته لولا نباهة الأستاذ كاظم جبارة الحبيب وفطنته, فانبرى لهذه المشكلة المستعصية, واستطاع ان يعيد للنادي أمجاده وهيبته, خصوصا بعد ان فريسة للعوز المالي بسبب نفاذ مدخراته وشحتها, فقرر الحبيب أن يتحمل بنفسه وزر هبوط الميزانية المتواضعة للنادي, ويغطي العجز من أمواله الخاصة.
سجل كاظم جبارة الحبيب حضورا مرموقا في اتحاد كرة القدم خلال عام 1952 كونه عضوا أساسيا فيه, ثم عمل في اللجنة الفنية للفترة من عام 1956 الى 1968, ورافق المنتخب الوطني العراقي لكرة القدم في معظم جولاته الخارجية, والتي لم تخل من الانتصارات الدولية والأحداث الطريفة.
قبل أيام وقعت بيدي نسخة قديمة من جريدة (الرياضي) التي كانت تصدر في بغداد في سبعينات القرن الماضي, وفيها مقابلة أجراها المحلل الرياضي والكاتب الصحفي المعروف (عبد الله نجم السعد) مع الأستاذ كاظم جبارة الحبيب, وكم كان هذا الرجل صائبا في تقديراته وتوقعاته وتطلعاته الكروية في الموقف الجريء الذي سجلته الجريدة آنذاك, فقد وجه إليه الصحفي الحاذق السؤال التالي:-
((ما هو السبيل الأمثل لتطوير كرة القدم في البصرة ؟.))
فجاء جواب الأستاذ الخبير متوافقا تماما مع ما نمر به اليوم من واقع رياضي متذبذب ومتخلف, وتلخص جوابه قبل أكثر من ربع قرن بالكلمة التالية:-
((لا سبيل لتطوير كرة القدم في البصرة إلا بتوفير الملاعب الحديثة, وبخلاف ذلك يتعذر علينا بلوغ أهدافنا)).
كان هذا رأيه (رحمه الله) قبل عقود من الزمان, وبرغم كل هذا السنوات الطويلة التي مرت بنا لم نبن ملعبا جديدا واحدا, وتخلفنا كثيرا عما حققه أشقاؤنا في الخليج العربي, وكان حري بنا أن نلتفت إلى ما قاله هذا الرجل العملاق المتبحر في اختصاصه الكروي الإداري, وكان حري بنا ان نستمع لتوجيهاته النابعة من نظرته المستقبلية الثاقبة.
وها هي ملاعبنا في الجنوب تمر بمراحل الشيخوخة, وتعاني من الضعف والوهن الذي أصابها في السنوات العجاف, وربما ستتحول إلى أطلال في غضون الأعوام القليلة القادمة, لكن ذكرى هذا الرجل الطيب لن تموت أبدا, فما أحوجنا اليوم لحكمته وموعظته, وما أحوجنا للسير في أثره والاستفادة من تجاربه.
امضي الأستاذ كاظم جبارة حياته المفعمة بالنشاط في ربوع المعقل, وتسلق السلم الوظيفي في الموانئ حتى صار مديرا للدائرة الإدارية في مصلحة الموانئ العراقية (مدير الأوراق), فهو أيضا من خبراء الموانئ ومن المقربين لمديرها الذي ازدهرت الموانئ في عصرها الذهبي حتى تفوقت على كبريات الموانئ الأوربية إبان ستينات القرن الماضي, ونقصد به اللواء الركن (مزهر الشاوي) طيب الله ثراه.
رحل عنا أبو جواد منذ عقدين (1986) لكن ذكراه العطرة مازالت تُطرز صفحات التاريخ الرياضي للبصرة بالمشاهد والصور الرائعة. وما زالت عائلته تواصل عطائها الزاخر في خدمة المجتمع العراقي المتطلع نحو المستقبل الموعود بالخير والتقدم إن شاء الله, فابنه البكر (محمد جواد) من المرشدين البحريين المتميزين بحسن الأداء والكفاءة الملاحية النادرة, وابنه الثاني (علي) من رجال الأعمال. وجمعته صلة القرابة باللاعب الدولي الأسبق, وبطل الساحة والميدان (إدريس حمودي صالح), والربان البحري (صالح فالح المنصور).
صورٌ جميلة تركها لنا هذا الأب المخلص لوطنه وأبناءه, صنع لهم مجدا يفاخرون به الدنيا, ويتباهون به كلما مر ذكر نجوم الحركة الرياضية, فهو من النجوم الساطعة الذين سجلوا أسمائهم بمداد العطاء الدائم في سجل الحركة الرياضية والإدارية. وساهموا في تطويرها بكل جد وإخلاص وتفان.
في مسيرتنا الرياضية شخصيات عظيمة استحقت عن جدارة أن تكون مشرّفة يتطلّع إليها الرياضيون بالتقدير والاحترام، ليس فقط لأنها أسهمت في تأسيس الحركة الرياضة العراقية, ومنهم الأستاذ (كاظم جبارة الحبيب), بل بسبب إثراءهم الحركة الرياضية في المنطقة الجنوبية قبل أن تنتقل بذرة الرياضة إلى بقية المحافظات العراقية.