بقلم : فالح حسون الدراجي …
أنا لست مؤرخاً لأكتب بعين تسجيلية وذاكرة ارشيفية تاريخ مدينة الثورة كما يظن البعض، إنما أنا عاشق يجمع من بستان التاريخ أحلى ما فيه من زهور الياسمين والفل والرازقي، ليصنع منها قلادة حب تعطر جيد حبيبته (الثورة)، فأنا لست اكثر من شاعر مبهور باقمار مدينته، يحاول بكل ما فيه من دهشة وجنون، قطف ومضات بارقة من وهج ماضيها المتلألئ، ومضات باهرة الاشعاع، لها سطوع النجوم في حلكة الليل، وروعة الحقول عند نزول أول مطر بعد خريف طويل. نعم، انا لا ابتغي أجراً عن وردات الجمال التي اقطفها واهديها، ولا اطمع (بشكر) على قيامي بـ (واجب) جمع الشذرات المتقطرة كدمع الشمع، من عيون مدينته.. إنما أنا أسعى لبث همسة في أذن الجيل الجديد من أبناء المدينة، أقول لهم بمحبة: هؤلاء هم آباؤكم يا شباب، فكونوا مثلهم، وافخروا بهم.. واحذروا من الوقوع في اخطاء من أخطأ !! لذا، سأقوم اليوم بعرض صورة كبيرة أمام القراء، تشكلت ملامحها في مدينة الثورة منذ منتصف ستينيات القرن الماضي، ولتميزها، سوف يصاب الكثير من القراء بالدهشة، حين يعرفون أن فريقين شعبيين في مدينة الثورة، بدآ سوياً منذ الستينيات، وصنعا قاعدة الكرة الشعبية في بغداد وليس في الثورة فحسب، حتى أن عدد الفرق الشعبية في بغداد وصل عام 1975 – حسب وزارة الشباب آنداك- الى حوالي 1000 فريق شعبي، كان منها 600 فريق في مدينة الثورة فقط، وقطعاً فإن الفضل يعود في تلك الشعبية لهذين الفريقين الكبيرين، اللذين خلقا بتنافسهما الباهر، جماهيرية عارمة لكرة القدم في المدينة، ونتيجة لذلك اصبح لاعبو مدينة الثورة يشكلون العمود الفقري لفرق الأندية الكروية في بغداد، وكذلك للمنتخبات العراقية بمختلف الفئات.
وهذان الفريقان هما اتحاد فيوري، زعيم الفرق الاهلية في الچوادر.. واتحاد حبيب زعيم الفرق في منطقة( الدور) .. وطبعاً فإن في المدينة فرقاً اخرى مهمة ايضاً، مثل فريق الزمالك في (الداخل)، والذي أشرف عليه نجم المنتخب ونادي الشرطة الشهيد البطل بشار رشيد، وضم هذا الفريق كوكبة من لاعبي أندية الدرجة الاولى، وكذلك فريق التحرير في (منطقة الگيارة) الذي كان يقوده المدرب جاسم أبو العواطف، الملقب (أبو الوليد)، وفريق نهضة الشباب الذي أشرف عليه جلوب عبود -شقيق لاعب المنتخب والبريد المناضل كاظم عبود-واتحاد الثورة الذي اشرف عليه المدرب عبد الواحد حاتم، وفريق نجوم الثورة الذي اشرف عليه مجيد حميد، وقد ضم هذا الفريق شقيقيه جبار حميد ورحيم حميد -لاعبي المنتخب-وغيرهما، اضافة الى فريق الفتح الرياضي الذي اشرف عليه المناضل حسن ضمد.
في حين، أن فريق اتحاد فيوري، أسسه الشخصية الشيوعية جاسم عودة (أبو نضال)، واشرف على تدريبه في فترتين مختلفتين، المدربان البارزان: عبد الواحد حاتم، وكاظم صدام – شقيق النجوم كريم ونعيم ورحيم صدام- وقد ضم فريق فيوري في مراحله المختلفة: الحارس راضي مرور، والمدافع جمعة الأسود، وطارق بعقوب (جمهورية)، وجاسم رشم، وراضي مفتن، وراضي فاضل ومجبل عبد، ومهدي منجل، وضامن قاسم، وحسين لعيبي (أبو حنشة) وعبد الحسين مطلگ، ورحيم لعيبي وكاظم صدام، وعبد مزبان، وخليل الكردي، وتركي جبار – شقيق الفنان صباح الخياط- ورعد يوسف، ونوري هاشم – الشقيق الاكبر للراحل ناطق هاشم- وفيصل غضبان، وحسن زبون، ورشيد معن، واسماء أخرى لا تحضرني الان.
أما اتحاد حبيب، فقد أسسه واشرف على تدريبه الشخصية الاجتماعية والرياضية، والمربي القدير حبيب العلاق، وقد ضم في صفوفه: نجم الكرة العراقية فلاح حسن، والحارس طالب عبد علي ابو طليعة، وحسين فاضل وحسن دنوف وفاضل عبد والمدرب المعروف موفق المولى، وعبدالخالق لاعب القوة الجوية ويحيى دواي وطارق طاهر، وجواد كاظم، وهداف الدوري الممتاز فوزي شيهان، وجبار ابو العوره، ولاعب منتخب الجيش الشهيد البطل صبري كاظم، ونجم نادي الكهرباء طارق حنيص، ولاعب منتخب الجيش صباح ابراهيم، وسهيل، وطه، وكريم ابو فراس ..
لقد كان هذان الفريقان يتقاسمان قلوب محبي الكرة في المدينة، مثلما كانا يتقاسمان الكؤوس والبطولات والامجاد، لذلك كانت مباراة فيوري وحبيب بمثابة الكلاسيكو في مصطلحات الاعلام الرياضي هذه الأيام، وقد كنا نعتبر المباراة بينهما لا تقل في تنافسها سخونة وروعة ومتعة، و رعباً أيضاً، عن مباراة الزمالك والاهلي في مصر، او عن مباراة الفيصلي والوحدات في الأردن، حيث يتصل وزير الداخلية الاردني، بالملك حسين، بعد انتهاء المباراة قائلاً بفرح: “مبروك سيدنا، مباراة الفيصلي والوحدات انتهت بسلام)!
والخوف نفسه يحصل في مباراة الزمالك والاهلي، وقد يحدث ما يحدث في مباراة فيوري واتحاد حبيب، لكن الجو لم يخرج يوماً عن الجو الرياضي، ولا عن اطار التنافس الودي، فلا كراهية بينهما لا سمح الله، ولا ضغائن، ولا متعلقات تظل بعد انتهاء المباراة أبداً.. رغم انهما يمثلان منطقتي (الدور) والچوادر (المختلفتين( بعض الشيء.
ولأني شخصياً لعبت في أول شبابي، عدداً قليلاً من المباريات مع كل فريق من هذين الفريقين العزيزين، ولي صداقات عميقة مع عدد غير قليل من لاعبي الفريقين، فإني احتفظ في خزانة قلبي، بعشرات الحكايات والمواقف والمفارقات التي حصلت بين اللاعبين، واضطراراً ساكتفي بذكر موقف طريف واحد حصل مع كل فريق: في احدى مبارياتهما الكثيرة، قام مدافع فيوري بوضع الكرة في مرمى فريقه خطأً، وحين صاح به كابتن الفريق ومدربه آنذاك عبد الواحد حاتم: لك هاي شسويت يمعود جمعة؟
فاجابه جمعة غاضباً صارخاً: ما اسمح لك تحچي كلمة وحدة وياي.. شسوي، إذا متضايق آني ومحصور.. أشو منا الخصم، ومنا الخط ، شفت احسن مكان هذا، وخليت الطوبه بيه)!
فضحك عبد الواحد، وضحك اللاعبون والجمهور القريب !
أما في جانب اتحاد حبيب، فقد كان مهاجم الفريق فوزي شيهان واحداً من افضل الهدافين في الدوري العراقي، وكانت مشكلته الادمان على الخمر، وتحديداً (العرق ).. وكان رئيس الفريق السيد حبيب، شخصاً طيباً، محترماً، إلا أن فوزي يحرجه بعد كل مباراة، قائلاً: أبو علي، بروح والديك فد نص دينار مال نص عرگ!
فيضحك السيد ويعطيه ما يريد، لكنه يطلب من فوزي في الوقت ذاته، أن لا ينطق امام الآخرين كلمة العرگ، لأنه رياضي، وسيد (جده رسول الله)، وهذا يسبب له حرجاً!
فوافق فوزي واتفقا على صيغة مفادها ان يقول: انطيني نص دينار مال نص كباب! فيفهم سيد حبيب قصده، ويعطيه نصف دينار لشراء نصف عرق- – كان سعر بطل العرق وقتها ديناراً واحداً فقط-
واستمرا على هذا المنوال، وبهذه الصيغة المشفرة، لكن فوزي جاءه بعد انتهاء آخر مباراة لاتحاد حبيب واتحاد فيوري، وقال له امام عدد من الحضور : أبو علي فد دينار يرحم موتاك!
فاستغرب سيد حبيب الطلب، وقال له: ليش فوزي، أشو اليوم دينار، شعجب؟
فقال له فوزي بكل برود:
والله ابو علي هاي مال (بطل كباب)، اليوم آني مقهور كلش عالخسارة!
رحم الله النجم فوزي شيهان، فقد قتله (بطل الكباب) مبكراً وهو لم يزل في شبابه !