بقلم: فالح حسون الدراجي ..
كريم السيد.. شهيد انتفاضة آذار – شعبان المجيدة، وأحد أقرب الأصدقاء والزملاء الأحبة الى قلبي.. كائن جميل، وفريد قد لا يتكرر، فهو مثال حي، ونموذج راقٍ للجمال والحب والصدق مع النفس ومع الآخرين.. وإذا كان كريم صلباً، شجاعاً، تشهد له وقفته الجسورة وهو يحمل بيده سلاحه بين المنتفضين، ويخطب في جموع المتظاهرين الذين اقتحموا مركز شرطة التهذيب في منطقة الگيارة بمدينة الثورة في انتفاضة آذار -شعبان ١٩٩١ وأسقطوا ذلك المركز، أقول بقدر هذه الشجاعة والجسارة والصلابة، كان كريم أيضاً هادئاً، ورقيقاً وناعماً مثل خيط البريسم.
وتشهد له في هذه المزايا، صحبتنا، ورفقتنا الطويلة، والكثير من الوقائع والروائع والمواقف التي حصلت عبر سنوات حياتنا والتي وثقتها الصور ، والقصائد، والأغاني، والليالي، وحكايات الأخوة التي تجمعنا، والذكريات التي كانت تؤكد روعة هذا الفتى واخلاصه لأهله وصحبه، وشعبه، ومحبيه.
ولا غرابة في ذلك، فهذه الرقة، والعذوبة والعاطفة الفائقة، لا يمكن أن تنبت في غير النفوس الطاهرة، بل من المستحيل ان تجدها عند غير الفرسان الأحرار، من المضحين، والمحبين لوطنهم العزيز.
لذلك انتفض كريم مطلگ حسين آل حمد الموسوي (كريم السيد) مع اخوته المنتفضين في مدينة الثورة – وهي الانتفاضة الوحيدة التي قامت في بغداد آنذاك- فدفع حياته وشبابه ثمناً لوطنيته، بعد أن نفذ الاوباش حكم الاعدام به في ١٥ آذار ١٩٩١، دون ان يسلموا جثته الى ذويه، مما أطفأ النور في عيني امه، حزناً وبكاءً على ابنها البكر، وقد كان لجريمة اعدامه أثر موجع وصادم، لاسيما بعد ابلاغ عائلته رسمياً بقرار الاعدام، هو ورفاقه المشاركون في انتفاضة مدينة الثورة ..
ولد كريم (أبو حيدر) -ابن الحجية -هكذا نسمي أمه -رغم أنها علوية موسوية، في بغداد منطقة الشاكرية، عام ١٩٥٩، ثم انتقلت اسرته الى مدينة الثورة، وسكنت ذلك البيت المهاب الذي تفوح من خلف نوافذه وابوابه روائح المسك والبخور التي تملأ الروح والقلب، وكأنه بيت من بيوت الاولياء الصالحين.. ولا غرو في ذاك، فقد كان لجد كريم (سيد حسين الملقب أبو جبيدي) هيبة ومقام، وكرامات معروفة، وكان الناس يقصدون بيتهم للتبرك، والشفاء، وطلب الحاجات، وكان من الطبيعي ان تجد باب ذلك البيت، وسطحه، وجدرانه، ممتلئة بالحناء، ومزدحمة بالاعلام الخضر التي يضعها المريدون، بعد أن تقضى حوائجهم، ويتحقق لهم مرادهم !
وكان كريم يحترم هذه الطقوس العائلية المتوارثة احتراماً جما، رغم علمانيته، بل وتعاطفه مع اليسار، وتحديداً الفكر الشيوعي، وإن لم ينتم لهذا الحزب، أو لأي حزب آخر، وقد اخبرني شقيقه (سيد رحيم) بميول كريم الشيوعية تلك.. كما أخبرني كريم نفسه ذات يوم، حين كنا في سهرة ضمت أصحابنا، وبعد أن قرأت قصيدة عن الحزب الشيوعي، همس كريم بأذني قائلاً: ( يابه وداعة حيدر أموت عليكم، وين أكو بالدنيا حزب وطني ومضحي، وشريف مثل الحزب الشيوعي )؟!
وللحق، فقد فاجأني أبو حيدر بهذا الاعتراف، إذ لم يكن يبدو عليه من قبل أي اهتمام بشؤون السياسة.. وللتأكيد على ذلك اقول، إن مشاركته الجسورة في الانتفاضة، واعدامه كان مفاجأة لنا جميعاً ايضاً، ليس لأنه غير جدير بهذه المشاركة البطولية لاسمح الله، إنما بسبب معرفتنا بحساسيته المفرطة من الخوض في أمور السياسة، فهو مثلاً يتحاشى انتقاد النظام رغم كرهه الشديد له، كما لم نلحظ عليه يوماً تشدقه وتفوهه بعبارات ثورية.. فقد كان باختصار طيباً، مسالماً، لا يبغض أحداً، ولا يزعج فراشةً، أما أن يحمل مسدساً ويخرج منتفضاً ضد نظام صدام، في مكان وزمان معروفين، يتبارى بهما البعثيون على تسجيل وتصوير ومتابعة الصغيرة والكبيرة عن كل من يشكّون في ولائه، فهو أمر لم يخطر على بالنا قط لذلك كانت صدمتنا باستشهاده عنيفة مؤلمة، رغم شعورنا بالفخر والاعتزاز ونحن نتلقى أنباء اشتراكه بتلك الانتفاضة الباهرة، التي كسرت أنف النظام الفاشي.. وقد زاد في فخرنا به، روعة الفعل الذي قام به في احداث الانتفاضة، والدور الشجاع البارز الذي اضطلع به، فهو لم يكتف بحمل السلاح ضد سلطة صدام، ولا في احتلال مراكز الشرطة، ولا بتأليف الاهازيج الثورية والقائها بين المتظاهرين فحسب، إنما شارك أيضاً بوجهه المكشوف المعلن في اغلاق الشوارع الرئيسة في (الگياره والشركة)، وملاحقة العناصر البعثية المعروفة باجرامها، وقد تم تصويره في بعض هذه الأعمال من قبل البعثيين، فكانت هذه الصور دليلاً كافياً على (إدانته) من قبل الاجهزة الامنية القمعية، واعدامه دون محاكمة.
ومما يوجع القلب ويدميه أن ابنه حيدر قد استشهد ايضاً بعد حوالي خمسة عشر عاماً في فتنة الحرب الطائفية التي جرت في العراق عام ٢٠٠٦، فكان المصاب ثقيلاً على عائلته، لاسيما على شقيقه رحيم، إذ فقد أخاه الوحيد في الانتفاضة المجيدة، ثم استشهاد ابن أخيه في لجة الطائفية المقيتة، مما دفع رحيم الى أن يطلق اسمَي كريم وحيدر على ولديه، حباً وتخليداً لاسمَي أخيه، وابن أخيه!
لقد جاء (كريمنا) ومضى مثل حلم أخضر.. أو مثل نجمة لمعت في سماء أيامنا ثم مضت مسرعة، تاركة لنا بعضاً من البريق والعطر والجمال الذي يجبرنا على استذكارها..
ولا أبالغ في وصف كريم الفتى الوديع، الحلو، المكتنز بالترافة والعذوبة والنقاء، لو قلت كأن الشاعر زامل سعيد فتاح قد كتب:
(مثل نسمة صيف مليانه ترافة) على كريم السيد تحديداً، وليس عن غيره، لولا علمي أن الراحل زامل لم يلتق بكريم أبداً، ولا يعرفه، وحين رسم هذه الصورة الشعرية الرائعة، في أغنية ( حاسبينك) فهو رسمها عن (العراق) وليس عن أي كائن آخر .. !
ختاماً أود أن أذكر، أن كريم السيد كان قمة في الأخلاق والأدب الجم.. حتى أنه أخفى – من شدة خجله – موهبته الشعرية عن الجميع، باستثناء اثنين : أنا والصديق سعد عبد الحسين، حتى جاء اليوم الذي اضطررت فيه أن افاجئ الجميع وأقدمه لهم في جلسة خاصة بقولي: ” أقدم لكم الشاعر كريم السيد في قصيدة جديدة!! فابتسم البعض معتقداً اني قد أمزح! أما كريم، فقد ارتبك، وخجل، وتلعثم، فشجعته، ليقرأ، فقرأ ( أنا انطيتك حياتي وغيري شنطاك؟)، وأبدع، وتفاعل معه
الحضور، وسرعان ما اشتهرت تلك القصيدة في قادم الأيام، حتى أنها قدمت كأغنية بأصوات عدة، كان من بينها صوت المطرب قاسم السلطان..
نعم، لقد اشتهرت قصيدة (انا انطيتك حياتي .. وغيري شنطاك)، وباتت هويةً لكريم السيد، لكن أمراً ظل يشغلني حتى اللحظة.. وهو أني كلما سألته عن الحبيب الذي كتب له قصيدة :
(أنا أنطيتك حياتي وغيري شنطاك؟ كان يقول لي : ” وداعتك أبو حسون راح يجي يوم تعرف بيه المن كتبت هذه القصيدة..”
فقلت: عاد كون حبيبك يستاهلها؟
فقال: يستاهلها ونص !!
ثم مضى كريم الى أبديته دون أن يقول لي سرّها ..
لكن سرّها كشف في وقفة استشهاده.. وهل هناك أحد أكثر من (العراق) يستاهل قصائدنا وحياتنا.. ونص؟