بقلم: د. مظهر محمد صالح ..
دخل مكتبي ، رجل أشيب الرأس متوسط القامة ، عرف نفسهُ بأنه أستاذ الاقتصاد الكمي في واحدة من جامعات جنوب العراق ، ثم اخذ مجلسه على اول كرسي في الطرف الايمن من مكتبي ليبادرني القول مبتسماً هل رأيتني من قبل ؟ اجبته ربما ، هنا اطلق الرجل اساريره وعلت الابتسامة ثغره ثانيةً قائلاً :ما اسهل الكلام وما اشق اللحظات والمواقف …! و واصل حديثه ، انه من الصعب عليك ان تتذكرني مالم اكرر ما حدث لنا سوية قبل (اكثر من اربعين عاما ).
هنا توقف الرجل من فوره ملتزماً الصمت ليتركني في دوامة الانفعالات وانا ابحث عن الاستفهام والشوق الى المجهول ، حيث كان من ايسر الامور على نفسي في تلك اللحظات هي الغربة المتسارعة بين بحر الوجد وبحر الامل .ثم استدركت وانا ابحث في يقيني صفحة قديمة ليقلبها هذا الرجل في تاريخي الشخصي المليء بالمتاعب والمحن !! هنا اجبت الدكتور محمد القادم من الجنوب ، لا اتذكر يا استاذ ،فان سوء الحظ قد سلط علينا عدواً اسمه الافكار فغزانا من داخل ذكرياتنا وعبث فيها ايما عبث
خلال العقود العجاف الماضية ،فربما كان الحادث المشترك بيننا فريسة لقهر معُذب ، ولكن لابد من بلوغ الحقيقة.
تبسم الدكتور محمد ثانية وهو من شاطرني البؤس والخوف والهم فوق سماء البحر ، قائلاً لا اسعى الى هذه المقابلة العسيرة ولكن جئت كي اذكرك ما حصل لنا على متن الطائرة الخاصة الرسمية الحديثة الصنع والتي تحمل عنوان : Lockheed JetStar….!!!
هنا انسكب سم القلق ليبتعد عن نفسي ،فاطلقت ضحكة عالية قائلًا له كيف لا اتذكر وانت من جلس الى جانبي في تلك الطائرة التي اريد لها ان تسقط في الشعب المرجانية للبحر الاحمر!!! .
ففي شهر أيار /مايو من العام 1980 حملتنا طائرة رسمية صغيرة حديثة الصنع ،وفي اول طيران لها بعد قدومها من الولايات المتحدة وهي تتسع لمجموعة لايزيد عددها على عشرة اشخاص ، مُتسمةً بطابعها البيروقراطي من حيث طغيان الجلد الابيض الثمين على مقاعدها وسيادة اللون الذهبي على مقابضها المعدنية ومواسير المياه ، ويوحي لك مجلسها وانت داخلها شدة المكتبية الحكومية وطغيانها ، وهي محلقة في السماء مواصلةً رحلتها من بغداد الى دار السلام عاصمة تنزانيا الواقعة قبالة الساحل الشرقي لافريقيا .اذ حملت الطائرة وفدا رسميا فنيا يراسه سياسي كبير صوب هذه الدولة الفقيرة ، لتحظى حكومة الرئيس جوليوس نايريري بقرض من الاموال التي وفرتها ريوع دورة الاصول النفطية التي تراكمت في نهاية سبعينيات القرن الماضي قبل ان تفنى موارد البلاد في حرب هوجاء في الاشهر اللاحقة .
ففي سماء البحر الاحمر اخذت طائرة JetStar بالنزول تدريجياً من مستوياتها العالية وصارت تلامس لمعان الامواج الا قليلاً ، ولم يمر حينها من امامي سوى ذلك الشاب مهندس الطائرة الذي حانت منه شدة نظره الى ارض الطائرة وان مفاصله ترتعد خوفاً صامتًا وهو يذهب مسرعاً بين مقدمة الطائرةً ويعود الى مؤخرتها بذهن مشتت . فالمنظر وسيناريو الاحداث اللحظية بات مرعباً ولم يبرح مخيلتي .اما زميلي محمد الذي جلس الى جانبي فقد حمل منظر البحر فوق راسه وهو ينظر الي بعينٍ متلصصة حذره ، وغدا كلانا يختلس الخوف بالنظر نحو مهندس الطائرة لنتسائل ما الخطب ايها الرجل ؟ فكانت اجابته لاشيء . ولم يفصح وجه ذلك الشاب المهندس عن تعبير محسوس في مفاصل وجهه ، سوى سحنة واحدة تدفع اساريره صوب الخوف بلا حذر.وظل يسرع الذهاب والاياب وهو يتمتم في نفسه ليقتنص فرصة للحزن الداكن بعد ان طغى الخوف على انفاسه.
هبطت الطائرة على مدرج طاريء في مدينة جدة ، واحاطتها في الوقت نفسه عدد من سيارات الاطفاء والاسعاف من كلا الجانبين لتواكب الطائرة بسرعات عالية وهي تترنح على مدرج الهبوط الاضطراري.
مضت ساعات قليلة من الانتظار ولم يكتشف فريق الصيانة التابع لشركة لوكهيد اي عطل ، بعد ان اشروا فجأة ان هناك عطل متعمد بفتح الملفات الفولاذية التي تربط مقدمة الطائرة في بدنها ، وهو فعل مروع اريد منه احداث خلل في توازن الضغط داخل الطائرة نفسه ، ما قد يتيح سقوطها بعد قطعها مسافات محددة.
انتهت اللعبة وواصلنا الطيران صوب العاصمة التنزانية دار السلام ونحن جميعا نغفوا بصمت مطبق ،لنذهب في اليوم التالي مباشرة الى وزارة المالية التنزانية التي كتب على مدخل بوابتها و باللغة السواحلية ( وزارة يا فدا) اي (وزارة الفدية او المال). استدركت في نفسي ما هي الفدية التي ستدفع الى الحكومة التنزانية ؟ هل نحن ام القرض ؟انه المال المجهول الذي افتتحنا به رحلتنا الى شرق افريقيا بالتقلب على ظهر طائرة JetStar فوق البحر الاحمر !!! ام انه يوم لاتكفي فيه الفدية و لاتمضي الا في رحلة هابطة نحو اعماق مياه البحر الاحمر، كي تنعقد المكيدة .
ضمت الطائرة شخصية اقصيت من مناصبها كافة بعد العودة بفترة قليلة كي اتيقن انها المكيدة الخفية . فربما لا تصنف مثل هذه الحوادث بالصدف القدرية طالما ظلت ايادي الخصومة تتهاوى من امامي وهي تدير مكرها بخبث محكم لترمي مراراتها في النهاية كضحايا فوق البحر الاحمر.