بقلم: فالح حسون الدراجي ..
منذ (سقوط) غورباتشوف وحدوث الزلزال الكارثي الذي بدأ عام 1991 بخروج الاتحاد السوفيتي من الخدمة، والميزان الدولي يعاني من اختلال واعتلال كبيرين، أدى بالمحصلة إلى أن تتزعم أمريكا المجتمع الدولي،
وتتفرد بقيادته دون أي منافس، أو ند حقيقي..
فلا الصين العظيمة، ولا بريطانيا العظمى، ولا روسيا بوتين، ولا فرنسا، ولا بقية الأقوام قادرون على الوقوف بوجه أمريكا، او قادرون حتى على تعديل بسيط في الكفة، وجعل القبان الدولي أكثر توازناً .. وطبعاً فإن لكل دولة من هذه الدول ظروفها وأسبابها، فالصين تسابق الزمن وتصارع المستحيل من اجل تنفيذ مشاريعها الصناعية وخططها الاقتصادية التي تؤمن من خلالها العيش الكريم لشعبها الذي تعداده يصل إلى المليار ونصف المليار مواطن تقريباً.. وهناك قضية أخرى تبعد الصين من الاحتكاك مع امريكا، إذ ربما لا يعرف الكثير من القراء ان الصين تجهز الأسواق الأمريكية بنسبة 60 % من احتياجاتها الاستهلاكية، وقد أظهرت البيانات الرسمية الأمريكية الصادرة حديثا أن التجارة بين الولايات المتحدة والصين سجلت رقما قياسيا بلغ 690.6 مليار دولار أمريكي في العام الماضي، على الرغم من قرارات الحكومة الأمريكية بإضافة مزيد من التعريفات الجمركية، وفرض قيود على الصادرات، وخطاب بعض الساسة الأمريكيين المنادي بفك الارتباط مع الصين.. لهذه الاسباب وغيرها يمكن لنا أن نفهم لماذا تنأى الصين بنفسها عن الاحتكاك بالولايات المتحدة الأمريكية..
أما روسيا، فالجميع يعرف مشكلتها في أوكرانيا، وورطة (بوتين)، وانزلاقه نحو المستنقع الاوكراني، الذي دفع اليه دفعاً !!
ولا ننسى أيضاً مشاكل روسيا مع دول الغرب، وأرصدتها المجمدة، حيث سبق لواشنطن أن جمّدت 30 مليار دولار من أصول مسؤولين روس فيما تم أيضاً تجميد 300 مليار دولار مملوكة للبنك المركزي الروسي.
أما بريطانيا وفرنسا، وتبعيتهما لقرارات البيت الأبيض فهو أمر بات معروفاً، لاسيما بريطانيا ..
وباختصار، فقد خسر العالم، بتفكك الدولة السوفيتية العظيمة، قوة دولية مهابة، كانت بمثابة الصوت الرادع لواشنطن، كلما تمادت في غيها، وتجاوزت حدودها .
وطبعاً فإن العرب عموماً، و (فلسطين) خصوصاً، كانوا أكبر الخاسرين من غياب الاتحاد السوفيتي .. فالعرب لم يشعروا بهذه الخسارة الفادحة إلا وقت الشدة، حيث يظهر مكان الاتحاد السوفياتي فارغاً، وتبرز الحاجة اليه بشكل لا يقبل المراوغة والتدليس. وقد تجلى هذا بوضوح في حربنا مع الصهاينة، وما يعانيه أهلنا هذه الايام من ظلم وقهر في غزة ..!
وهنا يحضرني هذا السؤال: هل سيحدث للشعب الفلسطيني في غزة كل هذه المآسي لو كان الاتحاد السوفيتي بثقله وقوته الكبيرة، موجوداً اليوم في الساحة الدولية، وهل سيسمح لأمريكا مثلاً أن تنفرد لوحدها بالمرمى الغزاوي، وتفعل ما تفعله من قتل واجرام وتجويع وتحيز، في الميادين الحربية والدبلوماسية والاقتصادية والإعلامية والمالية ايضاً ؟
وحتماً أن هذا السوال، سيحظى بأجوبة عديدة، من بينها جواب قد يأتي من الفريق المعادي للفكر الاشتراكي، يقول: وماذا قدم الاتحاد السوفيتي للعرب في حروبهم العديدة مع إسرائيل، ولماذا مثلاً لم ينقذ مصر وسوريا والأردن من الكارثة التي لحقت بهم في الخامس من حزيران؟
وأجيب بالأرقام والحقائق، ليس دفاعاً عن موسكو، انما للتاريخ أولاً، ولكي تعرف الاجيال حقيقة مواقف الاتحاد السوفيتي تجاه العرب وفلسطين، خاصة وان هناك تغييباً فظاً للوقائع والحقائق..
وقبل ان نبدأ يجب أن أنوه بأن الاتحاد السوفيتي – ومن بين القواعد المتفق عليها ضمناً وليس تدويناً، عدم المشاركة المباشرة في القتال نيابة عن العرب، لأن ذلك لا يليق بكرامة العرب أولاً، و ثانياً سيشعل حرباً عالمية ثالثة دون شك.. لذا لم تشارك القوات السوفيتية في الحرب بشكل مباشر مع العرب في المواجهة مع إسرائيل، لكنها فعلت كل شيء لنصرة العرب..
ولو ذهبنا لقراءة جدول الدعم السوفيتي للعرب، لوجدنا أن الزعيم السوفيتي (خروشوف) قد خرق السائد والمألوف منذ منتصف الخمسينيات حين وافق على صفقة الأسلحة التشيكية لمصر، والتي كانت بمثابة الزلزال الذي ارعب إسرائيل والغرب معاً .. وفي عام 1960، واصل خروشوف دعمه الاقتصادي والعسكري للبلدان للعربية، رغم ضرب القوى الشيوعية بمصر في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، وبالجزائر في عهد بن بيلا عقب الاستقلال مباشرة ! وفي عام 1964 وعند إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، وبعد زيارة جمال عبدالناصر لموسكو بصحبة ياسر عرفات، ولقاء الرئيس السوفيتي ليونيد بريجنيف بدأ دعم المنظمة الفلسطينية عسكرياً وسياسياً أيضاً. والواقع أن الدعم السوفيتي (القوي) للعرب وقضية فلسطين قد تأكد وتعمق في عهد بريجنيف ومثال على ذلك:
1- اتخاذه ( أي بريجنيف) قراراً بعدم السماح بسقوط الأنظمة العربية الوطنية مهما كان، وإرسال حوالي عشرة آلاف خبير ومستشار عسكري لمصر بعد نكسة حزيران 1967.
2- مساندة مصر عسكرياً خلال حرب الاستنزاف، وبناء شبكة من الدفاع الجوى في عام 1970.
3- دعم سورية بمعدات وأسلحة جديدة بعد حرب أكتوبر 1973 لتعويض خسائرها، علاوة على دعمها بمعدات دفاع جوي حديثة، بعد أن غزت إسرائيل الأراضي اللبنانية عام 1982″، كما كانت هناك مواقف عديدة للاتحاد السوفيتي، لدعم الدول العربية الأخرى، فقد ساند الاتحاد السوفيتي النظام التقدمي في عدن، وكذلك العراق.. كما قام بدعم التعاون الاقتصادي والعسكري مع الجزائر منذ استقلالها، وفي بداية السبعينيات وجه تحركه بوضوح تام تجاه التعاون الاقتصادي والعسكري مع ليبيا.
وخلال حرب تشرين 1973، وقف السوفيت موقفاً مؤيداً معروفاً لصالح العرب، ففي أعقاب صدور قرار وقف إطلاق النار الأول يوم 22 تشرين 1973، ومع استمرار انتهاك إسرائيل للقرار، أرسل بريجنيف رسالة شديدة اللهجة لواشنطن في23 تشرين 1973، أدان فيها السلوك الإسرائيلي بعنف وقوة .. ومع تواصل الانتهاكات الإسرائيلية، أصدر الاتحاد السوفيتي بياناً بمثابة (إنذار شديد) وقعه بريجنيف باسمه، أكد فيه على أن استمرار العدوان سوف يسفر عن عواقب وخيمة، وأن الاتحاد السوفيتي سوف يقرر بنفسه اجراء الخطوات الضرورية والعاجلة لتأكيد احترام إسرائيل لوقف إطلاق النار، ورافق ذلك رفع الاتحاد السوفيتي درجة استعداد عدد من فرقه المحمولة، علاوة على تحركات عسكرية سوفيتية أخافت أمريكا والناتو، وأرعبت تل أبيب، لذلك بدأت واشنطن على الفور اتصالات جادة مع موسكو عبر وزير خارجيتها هنري كيسنجر عجلت في ايقاف القتال. كما أن ثمة موقفاً للاتحاد السوفيتي، تمثل في انشاء الجسر الجوي لتعويض خسائر مصر وسورية، ولموازنة الجسر الأمريكي لاسرائيل.
كما وقف السوفيت موقفاً مسانداً لقرارات قمة بغداد التي عقدت في 3 تشرين الثاني عام 1978، والتي أعلن فيها تجميد عضوية مصر في جامعة الدول العربية بعد اتفاقية كمب ديفيد. كما وقف السوفيت إعلامياً وسياسياً مع تشكيل جبهة الصمود والتصدي والتي ضمت العراق وسورية، وليبيا، والجزائر، ومنظمة التحرير الفلسطينية، وأعلن رفضه لكامب ديفيد الموقع بين مصر وإسرائيل..
إن هذا الذي ذكرته، غيض من فيض مواقف الاتحاد السوفيتي المشرفة تجاه العرب، لا سيما قضيتهم المركزية فلسطين..واليوم وحيث تعاني غزة الأمرين على يد الصهاينة ما أحرانا ان نتذكر مواقف هذا الصديق الوفي والقوي، مع كل احترامنا وتقديرنا لمواقف بعض الدول الشقيقة والصديقة مثل مواقف جمهورية ايران الإسلامية والدول الأخرى الداعمة لصمود شعب غزة.. لذا اسمحوا لي أن أستفيد من (عجز) البيت الشعري الذي قاله أبو فراس الحمداني عند أسره، لاستخدمه بعد التعديل في هذا المقال ويصبح: في ليلة غزة الظلماء يُفتقد (البدر) السوفيتي .. نعم يُفتقد ..!