بقلم : حسين الذكر ..
قال لي أبي : إن فيه شفاء ! كلْ منه حتى تشبع وتستلذ وتشفى .. إنها وصايا الرب التي لا تجافي الحقيقة، وذلك ما تعلمناه من أهالينا وأسلافنا وعلمائنا ، وأكدته لنا خبراتنا اليومية المتراكمة .. فانكببت بنهم ألتهم سيل العسل المجاني، ومذاقه السكري قاطع الحلاوة ..
أكلت منه حتى سال على وجنتَي، وطفح من شفتَي، وخر على ملابسي .. فكنت شرهاً في التذوق تحت وقع الجوع والعطش وممارسة لعبة الامتلاك ، وشراهة إشباع الذات .
حينما شرعت بنهمية الاكستاح العسلي لم أتذكر من وصايا أبي الطبية والصحية والدينية شيئاً يذكر .. فقد تفتقت بعقلي سبل الانقياد الغريزي الأعمى .. في ظل غياب أي من دواعي الرهبة أو الخشية أو النصيحة ومخلفات الوعي … بما يمكن أن يكون عليه سلوكي من الاعتدال ، وأنا أمارس صوت الحق الناطق حد الصراخ في دواخلي .
بعد سنين من تلك المشاهد المسرحية الجميلة لدغت إحدى النحلات بنت جارتنا التي ورم جسدها ، وفقدت وعيها ، وسالت منها الدماء بصورة لم أر شبيهاً لها من قبل ؛ فهالني ما شاهدت ، وسمعت من عويل وويل وثبور .. كدت أتقيأ فيه كل ما أخذت من ذلك العسل طوال عقود حياتي الماضية .. تساءلت في نفسي .. كيف يكون النحل شافياً ، وقاتلاً بآن واحد ؟
كيف لتلك اللحظة العسلية ، وبعد أن انتشى بها كل ما غرز في دواخلي وسترته نفسي وجسدي .. الغاص والمعبأ بكل أنواع الوسائل والرواذل والغوائل … دون أن أخسر شيئاً من طفولتي ووقتي ، ولذتي التي ما زالت تنمو غافية وصاحية في أعماق ذاتي السكرى والوجلة من تلك الكأس العسلية ، ومن ثمالة تلك اللحظة .. فيما أتقزم الآن وأتقوقع تحت أنين امرأة خرت على الأرض مستسلمة بلسعة قاضية من مخارج النحلة ذاتها التي أطعمتني ثم أرعبتني .. !؟
لم أستطع استيعاب الدرس ، وأخذت أبحث عن فرصة للنيل من النحلة وأخواتها وفواصلها وتبعاتها .. خرجت إلى ميدان الحرب أبحث عن أية نحلة أحاول أن أكتم أزيزها وأخنق دويها إلى الأبد ..
بحثت بحثت طويلاً لم أبقِ صحراء ولا جبلاً ولا بحراً ، ولا بستاناً ، ولا غابة … إلا ونبشت فيها الملاجىء والأوكار والكور والمخادع والأعشاش .. تصيداً لأية نحلة ، وإن كانت من نسب وجذر أصيلين .. لم أعد أنظر إلى العسل إلا عبارة عن مادة سامة تستخدم وتوظف حسب ما يأمر به سلطان النحلات .. فيسكرني بها حينما يحتاج غبائي وطاعتي .. ويقتلني بلحظة حد الذل والمهانة عندما أتحدى سلطانه ، أو هو يعتقد ذلك .. ولو حتى بالوهم ..
كفرت بفلسفة النحل ، وتعبت من البحث ، وهاجمت كثيراً من الخيالات والاستنباطات وقتلتها ، وكذا بقية الحيونات حتى المفترسة منها … التي ولت من سيفي ورعبي ووقاحتي شاردة هائمة .. لم أترك سلاحاً فتاكاً إلا استخدمته ، ولا وسيلة فضيلة أو رذيلة إلا فعلتها؛ لنشر فضائح النحل القاتل ..
أنهكني التعب … وأخذت أستريح تحت ظل شجرة .. ما إن غفوت أو بالكاد أشعر بنعاس ما .. وربما بسكرة واعية جعلتني أتوهم أو أستحضر حميمية نحلتين على زهرة قريبة مني .. حدث الزواج والعرس النحلي دون ضجيج .. لم تطلق فيه أية عيارات نارية ، ولم تقرأ أية نصوص مقدسة ، ولم تجر أية شعائر طقوس أو مهرجانات .. أو أية انتهاكات لفصول احتفالات مدنسة .. المشهد برمته جذبني حد الصحو ، بل الصبر على تحمل رؤية النحل مرة أخرى .. فثمة رومانسية ، بل دبلوماسية عالية عند النحل .. جعلتني أستطعم جمال منظر حفل الزفاف دون أن أطلق طلقة من رشاشي الجاثم معي، وتحت إبطي ، وفي عقلي ونفسي وزادِ جعبتي ..
لم يطُل المشهد الذي تذكرت فيه كثيراً من شراهتي النهمية الطفولية تلك .. وربما صحت بفحولتي كثيراً من شهوة تفاصيل ملامح أي اقتراب جسدي لأي نوع من الكائنات .. لم أفرط كثيراً بالتفكير سوى أني شعرت بخجل من تلقي صفعة نحلية .. ألقت محاضرة مؤثرة واضحة بالغة الهدف .. لم تستغرق لحظات من على قمة مسرح الحياة، وبراءة الإلقاء دون الحاجة إلى ملايين ملايين التحضيرات المزيفة ..